فصل: تفسير الآيات رقم (218- 219)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏211- 214‏]‏

‏{‏سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

ولما كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور مجد الله في الغمام لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر وفي جبل الطور وقبة الزمان وما في ذلك على ما نقل إليهم من وفور الهيبة وتعاظم الجلال قال تعالى‏:‏ جواباً لمن كأنه قال‏:‏ كيف يكون هذا‏؟‏ ‏{‏سل‏}‏ بنقل حركة العين إلى الفاء فاستغنى عن همزة الوصل ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ أي الذين هم أحسد الناس للعرب ثم استفهم أو استأنف الإخبار ‏{‏كم آتيناهم‏}‏ من ذلك ومن غيره ‏{‏من آية بينة‏}‏ بواسطة أنبيائهم فإنهم لا يقدرون على إنكار ذلك، وسكوتهم على سماعه منك إقرار منهم‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ ولما كان هذا الذي أنذروا به أمراً مجملاً أحيلوا في تفاصيل الوقائع وتخصيص الملاحم ووقوع الأشباه والنظائر على ما تقدم ووقع مثاله في بني إسرائيل لتكرار ما وقع فيهم من هذه الأمة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة فقال‏:‏ ‏{‏سل‏}‏، استنطاقاً لحالهم لا لإنبائهم وإخبارهم، فالتفات النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يشهده الله من أحوال بني إسرائيل وأحوال ملوكهم وأحبارهم وأيامهم وتفرقهم واختلافهم وصنوف بلاياهم هو سؤاله واستبصاره لا أن يسأل واحداً فيخبره؛ انتهى- كذا قال، والظاهر أنه إباحة لسؤالهم فإنه صلى الله عليه وسلم ما سألهم عن شيء وكذبوا في جوابه فبين كذبهم إلا عرفوا بالكذب، كقصة حد الزنا وقضية سؤالهم عن أبيهم وقضية سم الشاة ونحو هذا، وفي ذلك زيادة لإيمان من يشاهده وإقامة للحجة عليهم وغير هذا من الفوائد‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فكانوا إذا بدلوا شيئاً من آياتنا واستهانوا به عاقبناهم فشددنا عقابهم، كما دل عليه ما سقته من التوراة في هذا الديوان لمن تدبر عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يبدل‏}‏ من التبديل وهو تصيير الشيء على غير ما كان ‏{‏نعمة الله‏}‏ أي الذي لا نعمة إلا منه التي هي سبب الهدى فيجعلها سبباً لضلال أو سبباً لشكر فيجعلها سبب الكفر كائناً من كان‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وأصل هذا التبديل رد علم العالم عليه ورد صلاح الصالح إليه وعدم الاقتداء بعلم العالم والاهتداء بصلاح الصالح وذلك المشاركة التي تقع بين العامة وبين العلماء والصلحاء وهو كفر نعمة الله وتبديلها- انتهى‏.‏

ولما كان الفطن من الناس يستجلب النعم قبل إتيانها إليه والجامد الغبي يغتبط بها بعد سبوغها عليه وكان المحذور تبديلها في وقت ما لا في كل وقت قال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد ما جآءته‏}‏ أي وتمكن من الرسوخ في علمها تنبيهاً على أن من بدلها في تلك الحال فقد سفل عن أدنى الإنسان والتحق بما لا يعقل من الحيوان‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ يهلكه الله، علله بقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله‏}‏ أي العظيم الشأن ‏{‏شديد العقاب *‏}‏ وهو عذاب يعقب الجرم، وذكر بعض ما يدل على صدق الدعوى في معرفة بني إسرائيل بما في ظهور المجد في الغمام من الرعب وما آتاهم من الآيات البينات، قال في أوائل السفر الخامس من التوراة‏:‏ فاسمعوا الآن يا بني إسرائيل السنن والأحكام التي أعلمكم لتعملوا بها وتعيشوا وتدخلوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله رب آبائكم، لا تزيدوا على الوصية التي أوصيكم بها، قد رأيتم ما صنع الله ببعلصفون من أجل أن كل رجل اتبع بعلصفون أهلكه الله ربكم من بينكم وأنتم الذين تبعتم الله ربكم أنتم أحياء- سالمون إلى اليوم، انظروا أني قد علمتكم السنن والأحكام كما أمرني الله لتعملوا بها الأرض التي تدخلونها وتحفظوها وتعملوا بها، لأنها حكمتكم وفهمكم تجاه الشعوب التي تسمع منكم هذه السنن كلها ويقولون إذا سمعوها‏:‏ ما أحكم هذا الشعب العظيم‏!‏ وما أحسن فهمه‏!‏ أي شعب عظيم إلهه قريب منه مثل الله ربنا فيما دعوناه‏!‏ وأي شعب عظيم له سنن وأحكام معتدلة مثل هذه السنة التي أتلو عليكم اليوم‏!‏ ولكن احتفظوا واحترسوا بأنفسكم ولا تنسوا جميع الآيات التي رأيتم ولا تزل عن قلوبكم كل أيام حياتكم بل علموها بنيكم وبني بنيكم وأخبروهم بما رأيتم يوم وقفتم أمام الله ربكم في حوريب يوم قال الرب‏:‏ اجمع هذا الشعب أمامي لأسمعهم آياتي ويتعلموا أن يتقوني كل أيام حياتهم على الأرض ويعلموا بنيهم أيضاً وتقدمتم وقمتم في سفح الجبل والجبل يشتعل ناراً يرتفع لهيبها إلى جو السماء ورأيتم الظلة والضباب والسحاب فكلمكم الرب في الجبل من النار، كنتم تسمعون صوت الكلام ولم تكونوا ترون شبهاً، فأظهر لكم عهده وأمركم أن تعلموا العشر آيات‏.‏

وكتبها على لوحين من حجارة، احترسوا واحتفظوا بأنفسكم جداً لأنكم لم تروا شبهاً في اليوم الذي كلمكم الله ربكم من الجبل من النار، احتفظوا، لا تفسدوا ولا تتخذوا أصناماً وأشباهها من كل جنس شبه ذكر أو أنثى أو شبه بهيمة في الأرض أو شبه كل طير في الهواء أو شبه كل هوام الأرض، ولا ترفعوا أعينكم إلى السماء وتنظروا إلى الشمس والقمر والكواكب وإلى كل أجناد السماء وتضلوا بها وتسجدوا لها وتعبدوها، التي اتخذها جميع الشعوب الذين تحت السماء؛ فأما أنتم فقربكم الله وأخرجكم من كور الحديد من أرض مصر لتصيروا له ميراثاً كاليوم- هذا نصه وقد تقدم ذلك مستوفى من السفر الثاني من التوراة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ استسقى موسى لقومه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 60‏]‏ فكان الرجوع إلى قص ما يريد الله سبحانه وتعالى من أحوال بني إسرائيل للأغراض الماضية على غاية ما يكون من الأحكام وفي الذروة العليا من حسن الانتظام وتجلي الملائكة في ظلل الغمام أمر مألوف منه ما في الصحيح عن البراء رضي الله تعالى عنه قال‏:‏

«كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر؛ فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال‏:‏ تلك السكينة تنزلت بالقرآن» وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه «أنه بينما هو يقرأ سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس، فسكت وسكنت، ثم قرأ فجالت، فانصرف؛ فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فرفعت حتى لا أراها، قال‏:‏ وتدري ما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم»‏.‏

ولما تقدم من الأمر بالسلم والتهديد على الزلل عنه ما يقتضي لزومه حتماً كان كأنه قيل‏:‏ ما فعل من خوطب بهذه الأوامر وقمع بتلك الزواجر‏؟‏ فقيل‏:‏ أبى أكثرهم، فقيل‏:‏ إن هذا لعجب‏!‏ ما الذي صدهم‏؟‏ فقيل‏:‏ تقدير العزيز الذي لا يخالف مراده الحكيم الذي يدق عن الأفكار استدراجه، فقيل‏:‏ كيف يتصور من العاقل كفر النعمة‏؟‏ فبين أن سبب ذلك غالباً الترفع والتعظم والكبر والبطر فرحاً بما في اليد وركوناً إليه وإعراضاً عما خبئ في خزائن الله في حجب القدرة فقال مستأنفاً بانياً للمفعول دلالة على ضعف عقولهم بأنهم يغترون بكل مزين ‏{‏زين‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من التزيين بما منه الزينة‏.‏ وهي بهجة العين التي لا تخلص إلى باطن المزين- انتهى‏.‏ ‏{‏للذين كفروا‏}‏ حتى بدلوا النعمة ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ لحضورها فألهتهم عن غائب الآخرة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصر طيتها ويشهد جيفتها فلا يغتر بزينتها وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق، وأبهم تعالى المزين في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك زينا لكل أمة عملهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 108‏]‏‏.‏

ولما ذكر ذلك بين حالهم عنده فقال‏:‏ ‏{‏ويسخرون‏}‏ أي والحال أنهم لا يزالون يسخرون أي يوقعون السخرية، وهي استزراء العقل هزؤاً‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ هي استزراء العقل معنى بمنزلة الاستسخار في الفعل حساً ‏{‏من الذين آمنوا‏}‏ لما هم فيه من الضعف والحاجة لإعراضهم عن الدنيا رغبة فيما عند الله لما وهبهم الله سبحانه وتعالى من العلم الخارق لتلك الحجب الكاشف لأستار المغيب ولأن الله يزوي عنهم الدنيا ويحميهم منها رغبة بهم عنها لكرامتهم عليه كما يحمي الإنسان حبيبه الطعام والشراب إن كان مريضاً لكرامته عليه فصار الكفار بهذا التزيين مع ما بوأناهم من الهوان بأنواع التهديد التي لا مرية في قدرتنا عليها مشغولين بلعاعة من العيش فهم راضون بأحوالهم مسرورون بها بحيث إنهم لا ينظرون في عاقبة بل مع الحالة الراهنة فيهزؤون بأهل الحق متعامين عن البينات معرضين عن التهديد تاركين الاستبصار بأحوال بني إسرائيل‏.‏

ولما كان الاستسخار بذوي الأقدار مراً وللنفوس مضراً قال تعالى مبشراً بانقلاب الأمر في دار الخلد مرغباً في التقوى بعد الإيمان‏:‏ ‏{‏والذين اتقوا‏}‏ أي آمنوا خوفاً من الله تعالى، فأخرج المنافقين والذين يمكن دخولهم في الجملة الماضية ‏{‏فوقهم‏}‏ في الرزق والرتبة والمكان بدليل ‏{‏أفيضوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 50‏]‏ وآية ‏{‏إني كان لي قرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 51‏]‏ وكل أمر سار ‏{‏يوم القيامة‏}‏ فهم يضحكون منهم جزاء بما كانوا يفعلون‏.‏

ولما كان تبدل الأحوال قريباً عندهم من المحال كان كأنه قيل في تقريب ذلك‏:‏ برزق من عند الله يرزقهموه ‏{‏والله‏}‏ بعز سلطانه وجلال عظمته وباهر كرمه ‏{‏يرزق من يشاء‏}‏ أي في الدنيا وفي الآخرة ولو كان أفقر الناس وأعجزهم‏.‏ ولما كان الإعطاء جزافاً لا يكون إلا عن كثرة وبكثرة قال‏:‏ ‏{‏بغير حساب‏}‏ أي رزقاً لا يحد ولا يعد، لأن كل ما دخله الحد فهو محصور متناه يعد، وفي هذه الأمة من لا يحاسبه الله على ما آتاه فهي في حقه على حقيقتها من هذه الحيثية‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ هل كان هذا الكفر والتزيين من بدء الأمر أم هو شيء حدث فيكون حدوثه أعجب‏؟‏ فقيل‏:‏ لا فرق عند الحكيم بين هذا وذاك، فإن قدرته على الكبير والصغير والجاهل والعليم والطائش والحليم على حد سواء على أن الواقع أن ذلك شيء حدث بعد البيان والواضح ‏{‏كان الناس‏}‏ أي كلهم ‏{‏أمة‏}‏ أي مجتمعين على شيء واحد يؤم بعضهم بعضاً ويقتدي بعضهم بعضاً ثم أكد اجتماعهم فقال‏:‏ ‏{‏واحدة‏}‏ أي على الصراط المستقيم فزل بعضهم فاختلفوا وتفرقت بهم السبل كما في آية يونس ‏{‏وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 19‏]‏ وعلى هذا أكثر المحققين كما قاله الأصفهاني وقد رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده بسند متصل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ على الإسلام كلهم ‏{‏فبعث الله‏}‏ أي الذي لا حكم لغيره ‏{‏النبيين‏}‏ الذين رفعهم الله تعالى على بقية خلقه فأنبأهم بما يريد من أمره وأرسلهم إلى خلقه ‏{‏مبشرين‏}‏ لمن أطاع، وهو جار مجرى حفظ الصحة، ولأنه مقصود بالذات قدم ‏{‏ومنذرين‏}‏ لمن عصى، وذلك جار مجرى إزالة المرض بالدواء‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فيه إعلام بأنه ليس للأنبياء من الهداية شيء وإنما هم مستجلون لأمر جبلات الخلق وفطرهم فيبشرون من فطر على خير وينذرون من جبل على شر، لا يستأنفون أمراً لم يكن بل يظهرون أمراً كان مغيباً، وكذلك حال كل إمام وعالم في زمانه يميز الله الخبيث من الطيب- انتهى‏.‏ ‏{‏وأنزل معهم الكتاب‏}‏ أي كلامه الجامع للهداية‏.‏

قال الحرالي‏:‏ إبراماً لثني الأمر المضاعف ليكون الأمر بشاهدين أقوى منه بشاهد واحد فقد كان في الرسول كفاية وفي الكتاب وحده كفاية لكن الله تعالى ثنى الأمر وجمع الكتاب والرسول لتكون له الحجة البالغة- انتهى‏.‏ ‏{‏بالحق‏}‏ أي الثابت كل ثبات ‏{‏ليحكم‏}‏ أي الله بواسطة الكتاب ‏{‏بين الناس فيما اختلفوا فيه‏}‏ من الدين الحق الذي كانوا عليه قبل ذلك أمة واحدة فسلكوا بهم بعد جهد السبيل الأقوم ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب ‏{‏وما اختلف فيه‏}‏ أي الكتاب الهادي للحق الذي لا لبس فيه المنزل لإزالة الاختلاف ‏{‏إلا الذين‏}‏ ولما كان العالم يقبح منه مخالفة العلم مطلقاً لا بقيد كونه من معلم مخصوص بني للمفعول ‏{‏أوتوه‏}‏ أي فبدلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف، ففي هذا غاية التعجيب وإظهار القدرة الباهرة التي حملتهم على ذلك‏.‏

ولما كان الخلاف ربما كان عن أمر غامض بين أن الأمر على غير ذلك فقال مشيراً بإثبات الجار إلى أنه لم يستغرق الزمان ‏{‏من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ أي الدلائل العقلية والنقلية التي ثبتت بها النبوة التي ثبت بها الكتاب‏.‏ قال الحرالي‏:‏ الجامعة لآيات ما في المحسوس وآيات ما في المسموع، فلذلك كانت البينات مكملة لاجتماع شاهديها- انتهى‏.‏

ولما كان هذا محل السؤال عن السبب بين أنه الحسد والاستطالة عدولاً عن الحق محبة لما زين من الدنيا وتنافساً فيها فقال‏:‏ ‏{‏بغياً‏}‏ قال الحرالي‏:‏ والبغي أعمال الحسد بالقول والفعل قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ثلاث لا يسلم منهن أحد» ومنهن متحلي الحسد والطيرة والظن، فإذا حسدت فلا تبغ لأن الحسد واقع في النفس كأنها مجبولة عليه فلذلك عذرت فيه؛ فإذا استعملت بحسبه مقالها وفعالها كانت باغية- انتهى‏.‏ وزاده عجباً بقوله ‏{‏بينهم‏}‏ أي لا بغياً على غيرهم فبدلوا من كل جهة‏.‏

ولما ذكر إنزال الكتاب وسببه ذكر ما تسبب عنه فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فعموا عن البينات‏:‏ ‏{‏فهدى الله‏}‏ في إسناده إلى الاسم الأعظم كما قال الحرالي إعلام بأنه ليس من طوق الخلق إلا بعون وتوفيق من الحق- انتهى‏.‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي بالنبيين ببركة إيمانهم ‏{‏لما اختلفوا‏}‏ أي أهل الضلالة ‏{‏فيه‏}‏ ثم بينه بقوله‏:‏ ‏{‏من الحق‏}‏ ويجوز أن تكون تبعيضية لما عموا عنه من الحق الذي نزل به الكتاب الذي جاء به النبيون ‏{‏بإذنه‏}‏ أي بما ارتضاه لهم من علمه وإرادته وتمكينه‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فيه إشعار بما فطرهم عليه من التمكين لقبوله لأن الإذن أدناه التمكين وإزالة المنع- انتهى‏.‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏يهدي من يشاء‏}‏ أي بما له من أوصاف الكمال ‏{‏إلى صراط مستقيم *‏}‏ قال الحرالي‏:‏ هذا هدى أعلى من الأول كأن الأول هدى إلى إحاطة علم الله وقدرته وهذا هدى إليه، وفي صيغة المضارع بشرى لهذه الأمة بدوام هداهم إلى ختم اليوم المحمدي

«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله» انتهى‏.‏ ولما أفهم ما صرح به الكلام السابق من الاختلاف وقوع العداوات وكان في العداوات خطر الأموال والأنفس وكان ذلك أشق ما يكون وكانت العادة قاضية بأن المدعوين إلى ذلك إن لم يصممواعلى الآيات كانوا بين مستثقلين لأمر الرسل يرون أنهم يفرقون ما اتفق من الكلمة ورضي به الناس لأنفسهم ويشتتون أمرهم مستثقلين لطول انتظار الانتصار كان حالهم حال من يطلب الراحات في ذرى الجنات بلا مشقات وذلك محال ومحض ضلال، فإن الثبات على الصراط المستقيم لا يكون إلا باحتمال شدائد التكاليف فكان كأنه قيل في جواب ذلك عدولاً عن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم المقول له ‏{‏سل بني إسرائيل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 212‏]‏ إلى خطاب الأتباع تشريفاً له عن ذلك ورفعاً لهممهم بالمواجهة بالخطاب والتأسية بمن مضى من أولي الألباب تنشيطاً لهم وتقوية لعزائمهم‏:‏ أحسبتم أنا لا نرسل الرسل لتمييز الخبيث من الطيب ‏{‏أم حسبتم‏}‏ بعد إرسالهم أن الأمر هين بأن تنالوا السعادة بلا اجتهاد في العبادة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ هو مما منه الحسبان وهو ما تقع غلبته فيما هو من نوع المفطور عليه المستقر عادته، والظن الغلبة فيما هو من المعلوم المأخوذ بالدليل والعلم؛ فكأن ضعف علم العالم ظن وضعف عقل العاقل حسبان- انتهى‏.‏ وهذا الذي قدرته هو معنى ‏{‏أن تدخلوا الجنة‏}‏ أي التي هي نعيم دائم ‏{‏و‏}‏ الحال أنه ‏{‏لما يأتكم مثل‏}‏ أي وصف ‏{‏الذين خلوا‏}‏ ولما كان القرب في الزمان أشد في التأسية أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏ أي يقص عليكم لتعلموا به أو يصيبكم ما أصابهم من الأحوال الغريبة والقضايا العجيبة التي هي في غرابتها كالأمثال‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ وأم عطف على أمور يفهمها مبدأ الخطاب كأنه يقول‏:‏ أحسبتم أن تفارق أحوالكم أحوال الأمم الماضية في حكمة الله وسنته ولن تجد لسنة الله تبديلاً إلى ما يستجره معنى الخطاب إجمالاً وتفصيلاً في واقع الدنيا من شدائدها وحرها وبردها وضيق عيشها وأنواع أذاها وحال البرزخ وحال النشر والحشر إلى ما وراء ذلك إلى غاية دخول الجنة فكان عند انتهاء ذلك بادئة خطاب ‏{‏أم حسبتم‏}‏ تجاوزاً لما بين أول البعث وغاية دخول الجنة- انتهى‏.‏ ونبهت لما التي فيها معنى التوقع لأنها في النفي نظيرة قد في الإثبات على أنه كان ينبغي لهم أن يكون دخولهم في الدين على بصيرة من حصول الشدائد لكثرة المخالف والمعاند فيكونوا متوقعين في كل وقت مكابدة القوارع وحلول الصوادع والصوارع ليكون ذلك أجد في أمرهم وأجدر لهم بالثبات والارتقاء إلى أعلى الدرجات‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما ذلك المثل‏؟‏ أجيب بياناً بقوله‏:‏ ‏{‏مستهم البأساء‏}‏ أي المصائب في الأموال ‏{‏والضراء‏}‏ أي في الأنفس- نقله أبو عبيد الهروي عن الأزهري، والأحسن عندي عكسه، لأن البأس كثير الاستعمار في الحرب والضر كثير الاستعمال في الفقر؛ أي جزاء لهم كما قال الحرالي على ما غيروا مما يجلب كلاًّ منهما ولكل عمل جزاء ‏{‏وزلزلوا‏}‏ لأمور باطنة من خفايا القلوب انتهى‏.‏ والمعنى أنهم أزعجوا بأنواع البلايا والرزايا والأهوال والأفزاع إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة التي تكاد تهد الأرض وتدك الجبال ‏{‏حتى يقول‏}‏ رفعه نافع على حكاية الحال في وقتها بمعنى أن الغاية والمغيا قد وجدا ومضيا فهما ماضيان وكأنك تحكي ذلك حين وقوعه مثل من يقول عن مريض يشاهده‏:‏ مرض حتى لا يرجونه، فإن النصب بتقدير أن وهي علم الاستقبال فهي لا تنصب إلا مضارعاً بمعناه؛ ونصبه الجماعة على حكاية الحال أيضاً لكن بتقدير أن الزلزال مشاهد والقول منتظر حقق ذلك المتبين حتى يقول‏:‏ ‏{‏الرسول‏}‏ وهو أثبت الناس ‏{‏والذين آمنوا معه‏}‏ وهم الأثبت بعده لطول تمادي الزمان فيما مسهم وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم وإشارة إلى تكرير ذلك من مقالهم‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ فذكر قول الرسول الواقع في رتبة الذين آمنوا معه لا قوله فيما يخصه في ذاته وحده ومن هو منه أو متبعه، لأن للنبي ترتباً فيما يظهر من قول وفعل مع رتب أمته، فكان قول الرسول المنبئ عن حالهم ‏{‏متى نصر الله‏}‏ فكأنهم في مثل ترقب المتلدد الحائر الذي كأنه وإن وعد بما هو الحق يوقع له التأخير صورة الذي انبهم عليه الأمر لما يرى من اجتثاث أسباب الفرج، ففي إشعاره إعلام بأن الله سبحانه وتعالى إنما يفرج عن أنبيائه ومن معهم بعد انقطاع أسبابهم ممن سواه ليمتحن قلوبهم للتقوى فتتقدس سرائرهم من الركون لشيء من الخلق وتتعلق ضمائرهم بالله تعالى وحده حتى يقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» إعلاماً بأن الله سبحانه وتعالى ناصره دون حجاب ولا وسيلة شيء من خلقه، كذلك سنته مع رسله ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏ وعلى ذلك جرت خوارق العادات للأولياء وأهل الكرامات لا يكاد يقع لهم إلا عن ضرورة قطع الأسباب، وفي قراءة النصب إعراب بأن غاية الزلزال القول، وفي الرفع إعراب عن غاية الزلزال وأنه أمر مبهم، له وقع في البواطن والظواهر، أحد تلك الظواهر وقوع هذا القول، ففي الرفع إنباء باشتداد الأمر بتأثيره في ظاهر القول وما وراءه- انتهى‏.‏ وهو في النصب واضح فإن حتى مسلطة على الفعل، وأما في الرفع فهي مقطوعة عن الفعل لأنها لم تعمل فيه لمضيه لتذهب النفس في الغاية كل مذهب ثم استؤنف شيء من بيانها بالفعل‏.‏

ولما كان معنى الكلام طلب النصر واستبطاء الأمر أجابهم تعالى إجابة المنادي في حال اشتداد الضر بقوله‏:‏ ‏{‏ألا‏}‏ قال الحرالي‏:‏ استفتاحاً وتنبيهاً وجمعاً للقلوب للسماع ‏{‏إن‏}‏ تأكيداً وتثبيتاً ‏{‏نصر الله‏}‏ الذي لا سبب له إلا العناية من ملك الملوك بعد قطع كل سبب من دونه ‏{‏قريب *‏}‏ لاستغنائه عن عدة ومدة، ففي جملته بشرى بإسقاط كلفة النصر بالأسباب والعدد والآلات المتعية، والاستغناء بتعلق القلوب بالله، ولذلك إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها، لأن نصرتها بتقوى القلوب لا بمدافعة الأجسام، فلذلك تفتح خاتمة هذه الأمة «قسطنطينية الروم بالتسبيح والتكبير» قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» فانعطف ذلك على ما أراده الله تبارك وتعالى بأنبيائه وأصفيائه من اليسر الذي كماله لهذه الأمة فأراد بهم اليسر في كل حال- انتهى‏.‏ وفي بعض الآثار‏:‏ إنما تقاتلون الناس بأعمالكم، والحاصل أنه لا يكفي مجرد ادعائهم الدخول في السلم بل لا بد من إقامة البينة بالصبر على ما يمتحنهم كما امتحن الأمم الخالية والقرون الماضية، فانظر هذا التدريب في مصاعد التأديب، وتأمل كيف ألقي إلى العرب وإن كان الخطاب لمن آمن ذكر القيامة في قوله‏:‏ ‏{‏والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 212‏]‏ والجنة في قوله‏:‏ ‏{‏أن تدخلوا الجنة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ وهم ينكرونهما إلقاء ما كأنه محقق لا نزاع فيه تأنيساً لهم بذكرهما، وانظر ما في ذلك من بدائع الحكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏215- 217‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏‏}‏

ولما كانت النفقة من أصول ما بنيت عليه السورة من صفات المؤمنين ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ ثم كرر الترغيب فيها في تضاعيف الآي إلى أن أمر بها في أول آيات الحج الماضية آنفاً مع أنها من دعائم بدايات الجهاد إلى أن تضمنتها الآية السالفة مع القتل الذي هو نهاية الجهاد كان هذا موضع السؤال عنهما فأخبر تعالى عن ذلك على طريق النشر المشوش وذلك مؤيد لما فهمته في البأساء والضراء فإن استعماله في القرآن أكثر من المرتب فقال معلماً لمن سأل‏:‏ هل سأل المخاطبون بذلك عنهما‏؟‏ ‏{‏يسئلونك ماذا‏}‏ أي أيّ شيء ‏{‏ينفقون‏}‏ من الأموال‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ لما كان منزل القرآن على نحو متصرف المرء في الأزمان كان انتظام خطابه متراجعاً بين خطاب دين يتلقى عن الله وبين إقامة بحكم يكون العبد فيه خليفة الله في نفاذ أمره وبين إنفاق يكون فيه خليفة في أيصال فضله، لأن الشجاعة والجود- خلافة والجبن والبخل عزل عنها، فكان في طي ما تقدم من الخطاب الإحسان والإنفاق، وكان حق ذلك أن لا يسأل عماذا ينفق، لأن المنفق هو الفضل كله، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا ابن آدم‏!‏ إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك» ففي هذا السؤال ممن سأله له نوع تلدد من نحو ما تقدم لبني إسرائيل في أمر البقرة من مرادة المسألة، لم يستأذن الصديق رضي الله تعالى عنه حين أتى بماله كله ولا استأذن عمر رضي الله عنه حين أتى بشطر ماله ولا استأذن سعد بن الربيع حين خرج لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما عن شطر ماله وإحدى زوجتيه؛ فكان في هذا السؤال إظهار مثل الذين خلوا من قبلهم ولولا أن الله رحيم لكان جوابهم‏:‏ تنفقون الفضل، فكان يقع واجباً ولكن الله لطف بالضعيف لضعفه وأثبت الإنفاق وأبهم قدره في نكس الإنفاق بأن يتصدق على الأجانب مع حاجة من الأقارب فقال تعالى خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم وإعراضاً منه عن السائلين لما في السؤال من التبلد الإسرائيلي- انتهى‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏قل ما أنفقتم من خير‏}‏ أي من مال وعدل عن بيان المنفق ما هو إلى بيان المصرف لأنه أنفع على وجه عرف منه سؤالهم وهو كل مال عدّوه خيراً فقال معبراً بالماضي ليكون أشمل‏:‏ ‏{‏ما أنفقتم من خير‏}‏ فعمم المنفق منه وهو كل ماله تعدونه خيراً وخص المصرف مبيناً أهمه لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها فقال‏:‏ فللوالدين‏}‏ لأنهما أخرجاه إلى الوجود في عالم الأسباب ‏{‏والأقربين‏}‏ لما لهم من الحق المؤكد بأنهم كالجزء لما لهم من قرب القرابة ‏{‏واليتامى‏}‏ لتعرضهم للضياع لضعفهم‏.‏

وقال الحرالي‏:‏ لأنهم أقارب بعد الأقارب باليتم الذي أوجب خلافة الغير عليهم- انتهى ‏{‏والمساكين‏}‏ لمشاركتهم الأيتام في الضعف وقدرتهم في الجملة على نوع كسب‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وهم المتعرضون لغة والمستترون الذين لا يفطن لهم ولا يجدون ما يغنيهم شرعاً ولغة نبوية- انتهى‏.‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ لضعفه بالغربة والآية محكمة فحمل ما فيها على ما يعارض غيرها‏.‏

ولما خص من ذكر عمم وبشر بقوله‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير‏}‏ أي مما يعد خيراً من عين أو معنى من هذا أو غيره مع هؤلاء أو غيرهم ‏{‏فإن الله‏}‏ المحيط علماً وقدرة بكل شيء‏.‏ ولما كان على طريق الاستئناف في مقام الترغيب والترهيب لكونه وكل الأمر إلى المنفقين وكان سبحانه عظيم الرفق بهذه الأمة أكِد علمه بذلك فقدم بذلك فقدم الظرف إشارة إلى أن له غاية النظر إلى أعمالهم الحسنة فقال‏:‏ ‏{‏به عليم *‏}‏ أي بالغ العلم وهو أولى من جازى على الخير‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ ختم بالعلم لأجل دخول الخلل على النيات في الإنفاق لأنه من أشد شيء تتباهى به النفس فيكاد لا يسلم لها منه إلا ما لا تعلمه شمالها التي هي التفاتها وتباهيها ويختص بيمينها التي هي صدقها وإخلاصها- انتهى‏.‏ ولما أخبروا بما سألوا عنه من إحدى الخصلتين المضمنتين لآية الزلزال كان ذلك موضع السؤال عن الأخرى فأجيبوا على طريق الاستئناف بقوله‏:‏ ‏{‏كتب‏}‏‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ لما التف حكم الحج بالحرب تداخلت آيات اشتراكهما وكما تقدم تأسيس فرض الحج في آية ‏{‏فمن فرض فيهن الحج‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ انتظم به كتب القتال، والفرض من الشيء ما ينزل بمنزلة الجزء منه، والكتب ما خُرز بالشيء فصار كالوصلة فيه، كما جعل الصوم لأن في الصوم جهاد النفس كما أن في القتال جهاد العدو، فجرى ما شأنه المدافعة بمعنى الكتب وما شأنه العمل والإقبال بمعنى الفرض، وهما معنيان مقصودان في الكتاب والسنة تحق العناية بتفهمهما لينزل كل من القلب في محله ويختص النية في كل واحد على وجهه وقد كان من أول منزلة آي القتال ‏{‏أذن للذين يقاتلون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ فكان الأول إذناً لمن شأنه المدافعة عن الدين بداعية من نفسه من نحو ما كانت الصلاة قبل الفرض واقعة من الأولين بداعية من حبهم لربهم ورغبتهم إليه في الخلوة به والأنس بمناجاته فالذين كانت صلاتهم حباً كان الخطاب لهم بالقتال إذناً لتلفتهم إليه في بذل أنفسهم لله الذين كان ذلك حباً لهم يطلبون الوفاء به حباً للقاء ربهم بالموت كما أحبوا لقاء ربهم بالصلاة «حين عقلوا» وأيقنوا أنه لا راحة لمؤمن إلا في لقاء ربه، فكان من عملهم لقاء ربهم بالصلاة في السلم، وطلب لقائه بالشهادة «في الحرب»، فلما اتسع أمر الدين ودخلت الأعراب والأتباع الذين لا يحملهم صدق المحبة للقاء الله على البدار للجهاد نزل كتبه كما نزل فرض الصلاة استدراكاً فقال‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القتال‏}‏ أي أيتها الأمة‏!‏ وكان في المعنى راجعاً لهذا الصنف الذين يسألون عن النفقة، وبمعنى ذلك انتظمت الآية بما قبلها فكأنهم يتبلدون في الإنفاق تبلداً إسرائيلياً ويتقاعدون عن الجهاد تقاعد أهل التيه منهم الذين قالوا‏:‏

‏{‏اذهب أنت وربك فقاتلا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ انتهى‏.‏ ‏{‏وهو كره‏}‏ وهو ما يخالف غرض النفس وهواها، ولعله لكونه لما كان خيراً عبر باللام في ‏{‏لكم‏}‏ وهذا باعتبار الأغلب وهو كما قال الحرالي عند المحبين للقاء الله من أحلى ما تناله أنفسهم حتى كان ينازع الرجل منهم في أن يقف فيقسم على الذي يمسكه أن يدعه والشهادة، قال بعض التابعين‏:‏ لقد أدركنا قوماً كان الموت لهم أشهى من الحياة عندكم اليوم وإنما كان ذلك لما خربوه من دنياهم وعمروه من أخراهم فكانوا يحبون النقلة من الخراب إلى العمارة- انتهى‏.‏

ولما كان هذا مكروهاً لما فيه على المال من المؤونة وعلى النفس من المشقة وعلى الروح من الخطر من حيث الطبع شهياً لما فيه من الوعد بإحدى الحسنيين من حيث الشرع أشار إلى ذلك بجملة حالية فقال‏:‏ ‏{‏وعسى أن‏}‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة براءة من شرح معاني ‏{‏عسى‏}‏ ما يوضح أن المعنى‏:‏ وحالكم جدير وخليق لتغطية علم العواقب عنكم بأن ‏{‏تكرهوا شيئاً‏}‏ أي كالغزو فتعرضوا عنه لظنكم أنه شر لكم ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏خير لكم‏}‏ لما فيه من الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة فإنكم لا تعلمون والذي كلفكم ذلك عالم بكل شيء غير محتاج إلى شيء وما كلفكم ذلك إلا لنفعكم‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فشهد- لهم لما لم يشهدوا مشهد الموقنين الذين يشاهدون غيب الإيمان كما يشهدون عن الحس، كما قال ثعلبة‏:‏ «كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وأنظر إلى أهل النار في النار يعذبون» ولم يبرم لهم الشهادة ولكن ناطها بكلمة ‏{‏عسى‏}‏ لما علمه من ضعف قبول من خاطبه بذلك، وفي إعلامه إلزام بتنزل العلي الأدنى رتبة لما أظهر هذا الخطاب من تنزل الحق في مخاطبة الخلق إلى حد مجاوزة المترفق في الخطاب- انتهى‏.‏

ولما رغبهم سبحانه وتعالى في الجهاد بما رجالهم فيه من الخير رهبهم من القعود عنه بما يخشى فيه من الشر‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فأشعر أن المتقاعد له في تقاعده آفات وشر في الدنيا والآخرة ليس أن لا ينال خير الجهاد فقط بل وينال شر التقاعد والتخلف- انتهى‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وعسى أن تحبوا شيئاً‏}‏ أي كالقعود فتقبلوا عليه لظنكم أنه خير لكم ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏شر لكم‏}‏ لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر وليس أحد منكم إلا قد جرب مثل ذلك مراراً في أمور دنياه، فإذا صح ذلك في فرد صار كل شيء كذلك في إمكان خيريته وشريته فوجب ترك الهوى والرجوع إلى العالم المنزه عن الغرض ولذلك قال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فالله قد حجب عنكم سر التقدير ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏يعلم‏}‏ أي له علم كل شيء وقد أخبركم في صدر هذا الأمر أنه رؤوف بالعباد فهو لا يأمركم إلا بخير‏.‏

وقال الحرالي‏:‏ شهادة بحق العلم يرجع إليها عند الأغبياء في تنزل الخطاب- انتهى‏.‏

والآية من الاحتباك ذكر الخير أولاً دال على حذفه ثانياً وذكر الشر ثانياً دال على حذفه مثله أولاً‏.‏

ولما أثبت سبحانه وتعالى شأنه العلم لنفسه نفاه عنهم فقال‏:‏ ‏{‏وأنتم لا تعلمون *‏]‏ أي ليس لكم من أنفسكم علم وإنما عرض لكم ذلك من قبل ما علمكم فثقوا به وبادروا إلى كل ما يأمركم به وإن شق‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ فنفى العلم عنهم لكلمة «لا» أي التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ قال من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم، وأما المؤمنون أي الراسخون فقد علمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شر لهم- انتهى‏.‏ حتى أن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب، «حتى شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التوجه إلى غزوة بدر» فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى‏:‏ ‏{‏فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق‏!‏ لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أشيروا عليّ أيها الناس‏!‏ فقال سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله تعالى عنه‏:‏ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ أجل، قال‏:‏ فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك‏.‏ فوالذي بعثك بالحق‏!‏ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك‏!‏ ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً‏!‏ إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى»‏.‏

ولما أخبرهم سبحانه وتعالى بإيجاب القتال عليهم مرسلاً في جميع الأوقات وكان قد أمرهم فيما مضى بقتلهم حيث تقفوهم ثم قيد عليهم في القتال في المسجد الحرام كان بحيث يسأل هنا‏:‏ هل الأمر في الحرم والحرام كما مضى أم لا‏؟‏ وكان المشركون قد نسبوهم في سرية عبد الله بن جحش التي قتلوا فيها من المشركين عمرو بن الحضرمي إلى التعدي بالقتال في الشهر الحرام واشتد تعييرهم لهم به فكان موضع السؤال‏:‏ هل سألوا عما عيرهم به الكفار من ذلك‏؟‏ فقال مخبراً عن سؤالهم مبنياً لحالهم‏:‏ ‏{‏يسئلونك‏}‏ أي أهل الإسلام لا سيما أهل سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنهم ‏{‏عن الشهر الحرام‏}‏ فلم يعين الشهر وهو رجب ليكون أعم، وسميت الحرم لتعظيم حرمتها حتى حرموا القتال فيها، فأبهم المراد من السؤال ليكون للنفس إليه التفات ثم بينه ببدل الاشتمال في قوله‏:‏ ‏{‏قتال فيه‏}‏ ثم أمر بالجواب في قوله‏:‏ ‏{‏قل قتال فيه‏}‏ أيّ قتال كان فالمسوغ العموم‏.‏

ولما كان مطلق القتال فيه في زعمهم لا يجوز حتى ولا لمستحق القتل وكان في الواقع القتال عدواناً فيه أكبر منه في غيره قال‏:‏ ‏{‏كبير‏}‏ أي في الجملة‏.‏

ولما كان من المعلوم أن المؤمنين في غاية السعي في تسهيل سبيل الله فليسوا من الصد عنه ولا من الكفر في شيء لم يشكل أن ما بعده كلام مبتدأ هو للكفار وهو قوله‏:‏ ‏{‏وصد‏}‏ أيّ صد كان ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ الملك الذي له الأمر كله أي الذي هو دينه الموصل إليه أي إلى رضوانه، أو البيت الحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج سبيل الله‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والصد صرف إلى ناحية بإعراض وتكره، والسبيل طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك منهجه ‏{‏وكفر به‏}‏ أيّ كفر كان، أي بالدين، أو بذلك الصد أي بسببه فإنه كفر إلى كفرهم، وحذف الخبر لدلالة ما بعده عليه دلالة بينة لمن أمعن النظر وهو أكبر أي من القتال في الشهر الحرام، والتقييد فيما يأتي بقوله‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ يدل على ما فهمته من أن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏كبير‏}‏ في زعمهم وفي الجملة لا أنه من الكبائر‏.‏

ولما كان في تقدم الإذن بالقتال في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام بشرط كما مضى كان مما يوجب السؤال عن القتال فيه في الجملة بدون ذلك الشرط أو بغيره توقعاً للإطلاق لا سيما والسرية التي كانت سبباً لنزول هذه الآية وهي سرية عبد الله بن جحش كان الكلام فيها كما رواه ابن إسحاق عن الأمرين كليهما فإنه قال‏:‏ إنهم لقوا الكفار الذين قتلوا منهم وأسروا وأخذوا عيرهم في آخر يوم من رجب فهابوهم فلطفوا لهم حتى سكنوا فتشاوروا في أمرهم وقالوا‏:‏ لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فترددوا ثم شجعوا أنفسهم ففعلوا ما فعلوا فعيرهم المشركون بذلك فاشتد تعييرهم لهم واشتد قلق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لا سيما أهل السرية من ذلك ولا شك أنهم أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بكل ذلك فإخبارهم له على هذه الصورة كاف في عدة سؤالاتهم فضلاً عن دلالة ما مضى على التشوف إلى السؤال عنه لما كان ذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏والمسجد‏}‏ أي ويسألونك عن المسجد ‏{‏الحرام‏}‏ أي الحرم الذي هو للصلاة والعبادة بالخضوع لا لغير ذلك «قتال فيه قل قتال فيه كبير» عندكم على نحو ما مضى ثم ابتدأ قائلاً‏:‏ ‏{‏وإخراج‏}‏ كما ابتدأ قوله‏:‏ ‏{‏وصد عن سبيل الله‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏أهله‏}‏ أي المسجد الذي كتبه الله لهم في القدم وهم أولى الناس به ‏{‏منه أكبر‏}‏ أي من القتال في الشهر الحرام خطأ وبناء على الظن والقتل فيه ‏{‏عند الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً فقد حذف من كل جملة ما دل عليه ما ثبت في الأخرى فهو من وادي الاحتباك، وسر ما صنع في هذا الموضع من الاحتباك أنه لما كان القتال في الشهر الحرام قد وقع من المسلمين حين هذا السؤال في سرية عبد الله بن جحش أبرز السؤال عنه والجواب، ولما كان القتال في المسجد الحرام لم يقع بعد وسيقع من المسلمين أيضاً عام الفتح طواه وأضمره، ولما كان الصد عن سبيل الله الذي هو البيت والكفر الواقع بسببه لم يقع وسيقع من الكفار عام الحديبية أخفى خبره وقدّره، ولما كان الإخراج قد وقع منهم ذكر خبره وأظهره؛ فأظهر سبحانه وتعالى ما أبرزه على يد الحدثان، وأضمر ما أضمره في صدر الزمان، وصرح بما صرح به لسان الواقع، ولوح إلى ما لوح إليه صارم الفتح القاطع- والله الهادي‏.‏

والمراد بالمسجد الحرام الحرم كله، قال الماوردي من أصحابنا‏:‏ كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فالمراد به الحرم إلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 149‏]‏ فإن المراد به الكعبة- نقله عن ابن الملقن‏.‏ وقال غيره‏:‏ إنه يطلق أيضاً على نفس مكة مثل ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ فإن في بعض طرق البخاري‏:‏ «فُرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست- إلى أن قال‏:‏ ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء» ويطلق أيضاً على نفس المسجد نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد‏}‏

‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏‏.‏

ولما كان كل ما تقدم من أمر الكفار فتنة كان كأنه قيل‏:‏ أكبر، لأن ذلك فتنة ‏{‏والفتنة‏}‏ أي بالكفر والتكفير بالصد والإخراج وسائر أنواع الأذى التي ترتكبونها بأهل الله في الحرم والأشهر الحرم ‏{‏أكبر من القتل‏}‏ ولو كان في الشهر الحرام لأن همه يزول وغمها يطول‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ وقد فتنوكم وقاتلوكم وكان الله سبحانه وتعالى عالماً بأنهم إن تراخوا في قتالهم ليتركوا الكفر لم يتراخوا هم في قتالهم ليتركوا الإسلام وكان أشد الأعداء من إذا تركته لم يتركك قال تعالى عاطفاً على ما قدرته‏:‏ ‏{‏ولا يزالون‏}‏ أي الكفار ‏{‏يقاتلونكم‏}‏ أي يجددون قتالكم كلما لاحت لهم فرصة‏.‏

ولما كان قتالهم إنما هو لتبديل الدين الحق بالباطل علله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏حتى‏}‏ ولكنهم لما كانوا يقدرون أنه هيّن عليهم لقلة المسلمين وضعفهم تصوروه غاية لا بد من انتهائهم إليها، فدل على ذلك بالتعبير بأداة الغاية، ‏{‏يردوكم‏}‏ أي كافة ما بقي منكم واحد ‏{‏عن دينكم‏}‏ الحق، ونبه على أن «حتى» تعليلية بقوله مخوفاً من التواني عنهم فيستحكم كيدهم ملهباً للأخذ في الجد في حربهم وإن كان يشعر بأنهم لا يستطيعون‏:‏ ‏{‏إن استطاعوا‏}‏ أي إلى ذلك سبيلاً، فأنتم أحق بأن لا تزالوا كذلك، لأنكم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون وأنهم على الباطل وهم مخذولون؛ ولا بد وإن طال المدى لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم، ومن وكل إلى نفسه ضاع؛ فالأمر الذي بينكم وبينهم أشد من الكلام فينبغي الاستعداد له بعدته والتأهب له بأهبته فضلاً عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعناً في الدين وصداً عن السبيل وشبههم التي أضَلوا عليهم دينهم ولا أصل لها، وفي الآية إشارة إلى ما وقع من الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فإن القتال على الدين لم ينقض إلا بعد الفروغ من أمرهم‏.‏ قال الحرالي‏:‏ الاستطاعة مطاوعة النفس في العمل وإعطاؤها الانقياد فيه، ثم قال‏:‏ فيه إشعار بأن طائفة ترتد عن دينها وطائفة تثبت، لأن كلام الله لا يخرج في بته واشتراطه إلا لمعنى واقع لنحو ما ويوضحه تصريح الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يرتدد‏}‏ إلى آخره؛ وهو من الردة ومنه الردة وهو كف بكره لما شأنه الإقبال بوفق- انتهى‏.‏ وكان صيغة الافتعال المؤذنة بالتكلف والعلاج إشارة إلى أن الدين لا يرجع عنه إلا بإكراه النفس لما في مفارقة الإلف من الألم؛ وإجماع القراء على الفك هنا للإشارة إلى أن الحبوط مشروط بالكفر ظاهراً باللسان وباطناً بالقلب فهو مليح بالعفو عن نطق اللسان مع طمأنينة القلب، وأشارت قراءة الإدغام في المائدة إلى أن الصبر أرفع درجة من الإجابة باللسان وإن كان القلب مطمئناً‏.‏

ولما حماهم سبحانه وتعالى بإضافة الدين إليهم بأنهم يريدون سلبهم ما اختاروه لأنفسهم لحقيته وردهم قهراً إلى ما رغبوا عنه لبطلانه خوفهم من التراخي عنهم حتى يصلوا إلى ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ومن يرتدد منكم‏}‏ أي يفعل ما يقصدونه من الردة ‏{‏عن دينه‏}‏ وعطف على الشرط قوله‏:‏ ‏{‏فيمت‏}‏ أي فيتعقب ردته أنه يموت ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏كافر‏}‏‏.‏

ولما أفرد الضمير على اللفظ نصاً على كل فرد فرد جمع لأن إخزاء الجمع إخزاء لكل فرد منهم ولا عكس، وقرنه بفاء السبب إعلاماً بأن سوء أعمالهم هو السبب في وبالهم فقال‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ البعداء البغضاء ‏{‏حبطت أعمالهم‏}‏ أي بطلت معانيها وبقيت صورها؛ من حبط الجرح إذا برأ ونفي أثره‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ من الحبط وهو فساد في الشيء الصالح يأتي عليه من وجه يظن به صلاحه وهو في الأعمال بمنزلة البطح في الشيء القائم الذي يقعده عن قيامه كذلك الحبط في الشيء الصالح يفسده عن وهم صلاحه ‏{‏في الدنيا‏}‏ بزوال ما فيها من روح الأنس بالله سبحانه وتعالى ولطيف الوصلة به وسقوط إضافتها إليهم إلا مقرونة ببيان حبوطها فقط بطل ما كان لها من الإقبال من الحق والتعظيم من الخلق ‏{‏والآخرة‏}‏ بإبطال ما كان يستحق عليها من الثواب بصادق الوعد‏.‏ ولما كانت الردة أقبح أنواع الكفر كرر المناداة بالبعد على أهلها فقال‏:‏ ‏{‏وأولئك أصحاب النار‏}‏ فدل بالصحبة على أنهم أحق الناس بها فهم غير منفكين منها‏.‏

ولما كانوا كذلك كانوا كأنهم المختصون بها دون غيرهم لبلوغ ما لهم فيها من السفول إلى حد لا يوازيه غيره فتكون لذلك اللحظ لهم بالأيام من غيرهم فقال تقريراً للجملة التي قبلها‏:‏ ‏{‏هم فيها خالدون *‏}‏ أي مقيمون إقامة لا آخر لها، وهذا الشرط ملوح إلى ما وقع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من الردة لأن الله سبحانه وتعالى إذا ساق شيئاً مساق الشرط اقتضى أنه سيقع شيء منه فيكون المعنى‏:‏ ومن يرتد فيتب عن ردته يتب الله عليه كما وقع لأكثرهم، وكان التعبير بما قد يفيد الاختصاص إشارة إلى أن عذاب غيرهم عدم بالنسبة إلى عذابهم لأن كفرهم أفحش أنواع الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏218- 219‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏‏}‏

ولما بين سبحانه وتعالى المقطوع لهم بالنار بين الذين هم أهل لرجاء الجنة لئلا يزال العبد هارباً من موجبات النار مقبلاً على مرجئات الجنة خوفاً من أن يقع فيما يسقط رجاءه- وقال الحرالي‏:‏ لما ذكر أمر المتزلزلين ذكر أمر الثابتين؛ انتهى- فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان‏.‏

ولما كانت الهجرة التي هي فراق المألوف والجهاد الذي هو المخاطرة بالنفس في مفارقة وطن البدن والمال في مفارقة وطن النعمة أعظم الأشياء على النفس بعد مفارقة وطن الدين كرر لهما الموصول إشعاراً باستحقاقهما للاصالة في أنفسهما فقال مؤكداً للمعنى بالإخراج في صيغة المفاعلة‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا‏}‏ أي أوقعوا المهاجرة بأن فارقوا بغضاً ونفرة تصديقاً لإقرارهم بذلك ديارهم ومن خالفهم فيه من أهلهم وأحبابهم‏.‏ قال الحرالي‏:‏ من المهاجرة وهو مفاعلة من الهجرة وهو التخلي عما شأنه الاغتباط به لمكان ضرر منه ‏{‏وجاهدوا‏}‏ أي أوقعوا المجاهدة، مفاعلة من الجهد- فتحاً وضماً، وهو الإبلاغ في الطاقة والمشقة في العمل ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي دين الملك الأعظم كل من خالفهم ‏{‏أولئك‏}‏ العالو الرتبة العظيمو الزلفى والقربة ولما كان أجرهم إنما هو من فضل الله قال‏:‏ ‏{‏يرجون‏}‏ من الرجاء وهو ترقب الانتفاع بما تقدم له سبب ما- قاله الحرالي ‏{‏رحمت الله‏}‏ أي إكرامه لهم غير قاطعين بذلك علماً منهم أن له أن يفعل ما يشاء لأنه الملك الأعظم فلا كفوء له وهم غير قاطعين بموتهم محسنين، قاطعون بأنه سبحانه وتعالى لو أخذهم بما يعلم من ذنوبهم عذبهم‏.‏

ولما كان الإنسان محل النقصان فهو لا يزال في فعل ما إن أوخذ به هلك قال مشيراً إلى ذلك مبشراً بسعة الحلم في جملة حالية من واو ‏{‏يرجون‏}‏ ويجوز أن يكون عطفاً على ما تقديره‏:‏ ويخافون عذابه فالله منتقم عظيم‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏غفور‏}‏ أي ستور لما فرط منهم من الصغائر أو تابوا عنه من الكبائر ‏{‏رحيم *‏}‏ فاعل بهم فعل الراحم من الإحسان والإكرام والاستقبال بالرضى‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وفي الختم بالرحمة أبداً في خواتم الآي إشعار بأن فضل الله في الدنيا والآخرة ابتداء فضل ليس في الحقيقة جزاء العمل فكما يرحم العبد طفلاً ابتداء يرحمه كهلاً انتهاء ويبتدئه برحمته في معاده كما ابتدأه برحمته في ابتدائه- انتهى بالمعنى‏.‏

ولما كان الشراب مما أذن فيه في ليل الصيام وكان غالب شرابهم النبيذ من التمر والزبيب وكانت بلادهم حارة فكان ربما اشتد فكان عائقاً عن العبادة لا سيما الجهاد لأن السكران لا ينتفع به في رأي ولا بطش ولم يكن ضرورياً في إقامة البدن كالطعام آخر بيانه إلى أن فرغ مما هو أولى منه بالإعلام وختم الآيات المتخللة بينه وبين آيات الإذن بما بدأها به من الجهاد ونص فيها على أن فاعل أجد الجدّ وأمهات الأطايب من الجهاد وما ذكر معه في محل الرجاء للرحمة فاقتضى الحال السؤال‏:‏ هل سألوا عن أهزل الهزل وأمهات الخبائث‏؟‏ فقال معلماً بسؤالهم عنه مبيناً لما اقتضاه الحال من حلمه فيبقى ما عداه على الإباحة المحضة‏:‏ ‏{‏يسئلونك عن الخمر‏}‏ الذي هو أحد ما غنمه عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه في سريته التي أنزلت الآيات السالفة بسببها‏.‏

قال الحرالي‏:‏ وهو مما منه الخمر- بفتح الميم- وهو ما وارى من شجر ونحوه، فالخمر- بالسكون- فيما يستبطن بمنزلة الخمر- بالفتح- فيما يستظهر، كأن الخمر يواري ما بين العقل المستبصر من الإنسان وبهيميته العجماء، وهي ما أسكر من أي شراب كان سواء فيه القليل والكثير ‏{‏والميسر‏}‏ قال الحرالي‏:‏ اسم مقامرة كانت الجاهلية تعمل بها لقصد انتفاع الضعفاء وتحصيل ظفر المغالبة- انتهى‏.‏ وقرنهما سبحانه وتعالى لتآخيهما في الضرر بالجهاد وغيره بإذهاب المال مجاناً عن غير طيب نفس ما بين سبحانه وتعالى من المؤاخاة بينهما هنا وفي المائدة وإن كان سبحانه وتعالى اقتصر هنا على ضرر الدين وهو الإثم لأنه أسّ يتبعه كل ضرر فقال في الجواب‏:‏ ‏{‏قل فيهما‏}‏ أي في استعمالهما ‏{‏إثم كبير‏}‏ لما فيهما من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير فهذا مثبت للتحريم بإثبات الإثم ولأنهما من الكبائر‏.‏ قال الحرالي‏:‏ في قراءتي الباء الموحدة والمثلثة إنباء عن مجموع الأمرين من كبر المقدار وكثرة العدد وواحد من هذين مما يصد ذا الطبع الكريم والعقل الرصين عن الإقدام عليه بل يتوقف عن الإثم الصغير القليل فكيف عن الكبير الكثير- انتهى‏.‏ ‏{‏ومنافع للناس‏}‏ يرتكبونهما لأجلها من التجارة في الخمر واللذة بشربها، ومن أخذ المال الكثير في الميسر وانتفاع الفقراء وسلب الأموال والافتخار على الأبرام والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم ودرء المفاسد مقدم فكيف ‏{‏وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏ وفي هذا كما قال الحرالي تنبيه على النظر في تفاوت الخيرين وتفاوت الشرين- انتهى‏.‏ قال أبو حاتم أحمد بن أحمد الرازي في كتاب الزينة‏:‏ وقال بعض أهل المعرفة‏:‏ والنفع الذي ذكر الله في الميسر أن العرب في الشتاء والجدب كانوا يتقامرون بالقداح على الإبل ثم يجعلون لحومها لذوي الفقر والحاجة فانتفعوا واعتدلت أحوالهم؛ قال الأعشى في ذلك‏:‏

المطعمو الضيف إذا ما شتوا *** والجاعلو القوت على الياسر

انتهى‏.‏ وقال غيره‏:‏ وكانوا يدفعونها للفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم، وبيان المراد من الميسر عزيز الوجود مجتماً وقد استقصيت ما قدرت عليه منه إتماماً للفائدة قال المجد الفيروز آبادي في قاموسه‏:‏ والميسر اللعب بالقداح، يسر ييسر، أو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، أو النرد أو كل قمار- انتهى‏.‏

وقال صاحب كتاب الزينة‏:‏ وجمع الياسر يسر وجمع اليسر أيسار فهو جمع الجمع مثل حارس وحرس وأحراس- انتهى‏.‏ والقمار كل مراهنة على غرر محض وكأنه مأخوذ من القمر آية الليل، لأنه يزيد مال المقامر تارة وينقصه أخرى كما يزيد القمر وينقص؛ وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين وعبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي‏:‏ قال مجاهد‏:‏ كل شيء فيه قمار فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز، وفي تفسير الأصبهاني عن الشافعي‏:‏ إن الميسر ما يوجب دفع مال أو أخذ مال، فإذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن ميسراً‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ الميسر الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته، والياسر الجازر لأنه يجزئ لحم الجزور، قال وهذا الأصل في الياسر ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور‏:‏ ياسرون، لأنهم جازرون إذ كانوا سبباً لذلك، ويقال‏:‏ يسر القوم- إذا قامروا، ورجل يسر وياسر والجمع أيسار؛ القزاز‏:‏ فأنت ياسر وهو ميسور برجع والمفعول ميسور- يعني الجزور، وأيسار جمع يسر ويسر جمع ياسر، وقال القزاز‏:‏ واليسر القوم الذين يتقامرون على الجزور، واحدهم ياسر كما تقول‏:‏ غائب وغيب، ثم يجمع أيسر فيقال‏:‏ أيسار، فيكون الأيسار جمع الجمع، ويقال للضارب بالقداح‏:‏ يسر، والجمع أيسار، ويقال للنرد‏:‏ ميسر، لأنه يضرب عليها كما يضرب على الجزور، ولا يقال ذلك في الشطرنج لمفارقتها ذلك المعنى؛ وقال عبد الحق في الواعي‏:‏ والميسر موضع التجزئة؛ أبو عبد الله‏:‏ كان أمر الميسر أنهم كانوا يشترون جزوراً فينحرونها ثم يجزئونها أجزاء، قال أبو عمرو‏:‏ على عشرة أجزاء، وقال الأصمعي‏:‏ على ثمانية وعشرين جزءاً، ثم يسهمون عليها بعشرة قداح، لسبعة منها أنصباء وهي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلي، وثلاثة منها ليس لها أنصباء وهي المنيح والسفيح والوغد، ثم يجعلونها على يد رجل عدل عندهم يجيلها لهم باسم رجل رجل، ثم يقسمونها على قدر ما يخرج لهم السهام، فمن خرج سهمه من هذه السبعة أخذ من الأجزاء بحصة ذلك، ومن خرج له واحد من الثلاثة فقد اختلف الناس في هذا الموضع فقال بعضهم‏:‏ من خرجت باسمه لم يأخذ شيئاً ولم يغرم ولكن تعاد الثانية ولا يكون له نصيب ويكون لغواً؛ وقال بعضهم‏:‏ بل يصير ثمن الجزور كله على أصحاب هؤلاء الثلاثة فيكونون مقمورين ويأخذ أصحاب السبعة أنصباء على ما خرج لهم فهؤلاء الياسرون‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ولم أجد علماءنا يستقصون علم معرفة هذا ولا يدعونه، ورأيت أبا عبيدة أقلهم ادعاء له، قال أبو عبيدة‏:‏ وقد سألت عنه الأعراب فقالوا‏:‏ لا علم لنا بهذا، هذا شيء قد قطعه الإسلام منذ جاء فلسنا ندري كيف كانوا ييسرون‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ وإنما كان هذا منهم في أهل الشرف والثروة والجدة- انتهى‏.‏ ولعل هذا سبب تسميته ميسراً‏.‏ وقال صاحب الزينة‏:‏ فالتي لها الغنم وعليها الغرم أي من السهام يقال لها‏:‏ موسومة، لأجل الفروض فإنها بمنزلة السمة، ويكون عدد الأيسار سبعة أنفس يأخذ كل رجل قدحاً، وربما نقص عدد الرجال عن السبعة فيأخذ الرجل منهم قدحين، فإذا فعل ذلك مدح به وسمي مثنى الأيادي، قال النابغة‏:‏

إني أتمم إيثاري وأمنحهم *** مثنى الأيادي وأكسو الحفنة الأدما

وقال‏:‏ ويقال للذي يضرب بالقداح‏:‏ حرضة، وإنما سمي بذلك لأنه رجل يجيل لا يدخل مع الأيسار ولا يأخذ نصيباً ولذلك يختارونه لأنه لا غنم له ولا غرم عليه، والذي لا يضرب القداح ولا يدخل مع الأيسار في شيء من أمورهم يقال له‏:‏ البرم، وتجمع القداح في جلدة، وقال بعضهم‏:‏ في خرقة، وتسمى تلك الجلدة الربابة، أي بكسر الراء المهملة وموحدتين، ثم تجمع أطرافها ويعدل بينها وتكسى يده أديماً لكي لا يجد مس قدح له فيه رأي وتشد عيناه، فيجمع أصابعه عليها ويضمها كهيئة الضغث ثم يضرب رؤوسها بحاق راحته فأيها طلع من الربابة كان فائزاً؛ قال‏:‏ وقال غيره‏:‏ تكون الربابة شبه الخريطة تجمع فيها القداح ثم يؤمر الحرضة أن يجيلها، فمنها ما يعترض في الربابة فلا يخرج ومنها ما لا يعترض فيطلع، فذاك يكون فائزاً، ويقعد رجل أمين على الحرضة يقال له‏:‏ الرقيب، ويقال للذي يضرب بالقداح‏:‏ مفيض، والإفاضة الدفع وهو أن يدفعها دفعة واحدة إلى قدام ويجيلها ليخرج منها قدح؛ وكذلك الإفاضة من عرفة هو الدفع منها إلى جمع- انتهى‏.‏ وقال في القاموس‏:‏ كانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزوراً نسيئة ونحروه قبل أن ييسروا وقسموه ثمانية وعشرين سهماً أو عشرة أقسام، فإذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل ظهر فوز من خرج لهم ذوات الأنصباء وغرم من خرج له الغفل- انتهى‏.‏ وقال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب‏:‏ الياسر هو الضارب في القداح، وهو من الميسر وهو القمار الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، وكانوا يتقامرون على الجزور أو غيره ويجزئونه أجزاء ويسهمون عليها مثلاً بعشرة لسبعة منها أنصباء وهي الفذ- إلى آخره، ثم يخرجون ذلك، فمن خرج سهمه من السبعة أخذ بحصته، ومن خرج له واحد من الثلاثة لم يأخذ شيئاً؛ ولهم في ذلك مذاهب ما عرفها أهل الإسلام ولم يكن أحد من أهل اللغة على ثبت في كيفية ذلك- انتهى‏.‏

هذا ما قالوه في مادة يسر وقد نظمت أسماء القداح تسهيلاً لحفظها في قولي‏:‏

الفذ والتوأم والرقيب *** والحلس والنافس يا ضريب

ومسبل مع المعلى عدواً *** ثم منيح وسفيح وغد

وأما ما قالوه في مادة كل اسم منها فقال في القاموس‏:‏ الفذ أي بفتح الفاء وتشديد الذال المعجمة‏:‏ أول سهام الميسر، والتوأم أي بفتح الفوقانية المبدلة من الواو وإسكان الواو وفتح الهمزة- وزن كوكب‏:‏ سهم من سهام الميسر أو ثانيها، والرقيب أمين أصحاب الميسر أو الأمين على الضريب والثالث من قداح الميسر، وقال في مادة ضرب‏:‏ والضريب الموكل بالقداح أو الذي يضرب بها كالضارب والقدح الثالث؛ وقال في الجمع بين العباب والمحكم‏:‏ والرقيب الحافظ ورقيب القداح الأمين على الضريب، وقيل‏:‏ هو أمين أصحاب الميسر، وقيل‏:‏ هو الرجل الذي يقوم خلف الحرضة في الميسر ومعناه كله سواء، وإنما قيل للعيوق‏:‏ رقيب الثريا، تشبيهاً برقيب الميسر، والرقيب الثالث من قداح الميسر، وفيه ثلاثة فروض، وله غنم ثلاثة أنصباء إن فاز، وعليه غرم ثلاثة إن لم يفز؛ وقال في مادة ضرب‏:‏ وضرب بالقداح والضريب الموكل بالقداح، وقيل‏:‏ الذي يضرب بها، قال سيبويه‏:‏ فعيل بمعنى فاعل، والضريب القدح الثالث من قداح الميسر، قال اللحياني‏:‏ وهو الذي يسمى الرقيب، قال‏:‏ وفيه ثلاثة فروض إلى آخر ما في الرقيب؛ وقال في القاموس‏:‏ والحُرْضَة أي بضم المهملة وإسكان المهملة ثم معجمة أمين المقامرين، والحلس بكسر المهملة وإسكان اللام ثم مهملة وككتف الرابع من سهام الميسر، والنافس بنون وفاء مكسورة ومهملة اسم فاعل خامس سهام الميسر، ومسبل أي بسين مهملة وموحدة قال‏:‏ بوزن محسن، السادس أو الخامس من قداح الميسر؛ وقال في مجمع البحرين‏:‏ وهو المصفح أيضاً يعني بفتح الفاء، والمعلّى كمعظم سابع سهام الميسر، والمنيح كأمير أي بنون وآخره مهملة قدح بلا نصيب، والسفيح أي بوزنه وبمهملة ثم فاء وآخره مهملة قدح من الميسر لا نصيب له، والوغد أي بفتح ثم سكون المعجمة ثم مهملة الأحمق الضعيف الرذل الدنيء وقدح لا نصيب له؛ وقال صاحب الزينة‏:‏ وكانوا يبتاعون الجزور ويتضمنون ثمنه ثم يضربون بالقداح عليه ثم ينحرونه ويقسمونه عشرة أجزاء على ما حكاه أكثر علماء اللغة، ثم يجيلون عليها القداح فإن خرج المعلى أخذ صاحبه سبعة أنصباء ونجا من الغرم، ثم يجيلون عليها ثانياً فإن خرج الرقيب أخذ صاحبه ثلاثة أنصباء ونجا من الغرم، ثم يجيلون عليها ثانياً فإن خرج الرقيب أخذ صاحبه ثلاثة أنصباء ونجا من الغرم ونفدت أجزاء الجزور، وغرم الباقون على عدد أنصبائهم فغرم صاحب الفذ نصيباً واحداً وصاحب التوأم نصيبين فعلى ذلك يقسمون الغرم بينهم‏.‏ وذكر عن الأصمعي أنه قال‏:‏ كانوا يقسمون الجزور على ثمانية وعشرين جزءاً‏:‏ للفظ جزء، وللتوأم جزءان، وللرقيب ثلاثة أجزاء- فعلى هذا حتى تبلغ ثمانية وعشرين جزءاً؛ وخالفه في ذلك أكثر العلماء وخطؤوه وقالوا‏:‏ إذا كان ذلك كذلك وأخذ كل قدح نصيبه لم يبق هنالك غرم فلا يكون إذاً قامر ولا مقمور، ومن أجل ذلك قالوا لأجزاء الجزور‏:‏ أعشار، لأنها عشرة أجزاء، قال امرؤ القيس‏.‏

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي *** بسهميك في أعشار قلب مقتّل

جعل القلب بدلاً لأعشار الجزور وجعل العينين مثلاً للقدحين أي سبت قلبه ففازت به كما يفوز صاحب المعلى والرقيب؛ وقال القزاز في التاء الفوقانية من ديوانه‏:‏ والتوأم أحد أقداح الميسر وهو الثاني منها، وإنما سمي توأماً بما عليه من الحظوظ، وعليه حظان وله من أنصباء الجزور نصيبان، وإن قمرت أنصباء الجزور غرم من خرج له التوأم نصيبين، وذلك أنها عشرة قداح أولها الفذ وعليه فرض وله نصيب، والثاني التوأم وعليه فرضان وله نصيبان، والثالث الرقيب وعليه ثلاثة فروض وله ثلاثة أنصباء، والرابع الحلس وعليه أربعة فروض وله أربعة أنصباء، والخامس النافس وعليه خمسة فروض وله خمسة أنصباء، والسادس المسبل وعليه ستة فروض وله ستة أنصباء، والسابع المعلى وعليه سبعة فروض وله سبعة أنصباء، ومنها ثلاثة لا حظوظ لها وهي السفيح والمنيح والوغد، وربما سموها بأسماء غير هذه لكن ذكرنا المستعمل منها هاهنا ونذكرها بأسمائها في مواضعها من الكتاب إن شاء الله تعالى؛ وهذه التي لا حظوظ لها ليس عليها فرض، ولذلك تدعى أغفالاً لأن الغفل من الدواب الذي لا سمة له‏.‏ وهيئة ما يفعلون في القمار هو أن تنحر الناقة وتقسم عشرة أجزاء فتعجل إحدى الوركين جزءاً، والورك الأخرى جزء وعجزها جزء، والكاهل جزء، والزور وهو الصدر جزء، والملحا أي ما بين الكاهل والعجز من الصلب جزء، والكتفان وفيهما العضدان جزءان، والفخذان جزءان، وتقسم الرقبة والطفاطف بالسواء على تلك الأجزاء، وما بقي من عظم أو بضعة فهو الريم وأصله من الزيادة على الحمل وهي التي تسمى علاوة فيأخذ الجازر؛ وربما استثنى بائع الناقة منها شيئاً لنفسه وأكثر ما يستثنى الأطراف والرأس، فإذا صارت الجزور على هذه الهيئة أحضروا رجلاً يضرب بها بينهم يقال له الحرضة فتشد عيناه ويجعل على يديه ثوب لئلا يحس القداح ثم يؤتى بخريطة فيها القداح واسعة الأسفل ضيقة الفم قدر ما يخرج منها سهم أو سهمان والقداح فيها كفصوص النرد الطوال غير أنها مستديرة فتجعل الخريطة على يدي الحرضة، ويؤتى برجل يجعل أميناً عليه يقال له الرقيب فيقال له‏:‏ جلجل القداح، فيجلجلها في الخريطة مرتين أو ثلاثاً، فإذا فعل ذلك أفاض بها وهو أن يدفعها دفعة واحدة فتندر من مخرجها ذلك الضيق، فإذا خرج قدح أخذه الرقيب، فإن كان من الثلاثة التي لا فروض عليها رده إلى الخريطة وقال‏:‏ أعد، وإن كان من السبعة ذوات الحظوظ دفعه إلى صاحبه وقال له‏:‏ اعتزل القوم، وذاك أن الذين يتقامرون قد أخذ كل واحد منهم قدحاً على ما يحب، فإن كان الذي خرج الفذ أخذ صاحبه جزءاً وسلم من الغرم وأعاد الحرضة الإفاضة، وإن كان الذي خرج التوأم أخذ صاحبه نصيبين واعتزل القوم وسلم من الغرم أيضاً، وكذا كل واحد منهم يأخذ ما خرج له ويعتزل القوم ويسلم من الغرم، فإذا خرج في الثانية قدح أخذ صاحبه ما خرج له وكذا الثالث يأخذ ما خرج له ويعتزل القوم ما لم يستغرق الأول والثاني أنصباء الجزور، مثل أن يخرج للأول الرقيب فيأخذ ثلاثة أنصباء، ثم يخرج للثاني المعلى فيأخذ سبعة أنصباء ويغرم الباقون ثمن الجزور‏.‏

أو يخرج في الأول الفذ وفي الثاني التوأم وفي الثالث المعلى فيذهب أيضاً سائر الأنصباء ويغرم باقي القوم ثمن الجزور، وكذا ما كان مثل هذا؛ فإن زادت سهام من خرج له قدح على ما بقي من الجزور غرم له من بقي ما زاد سهمه؛ وذلك مثل أن يخرج للأول المعلى فيأخذ سبعة أنصباء ثم يخرج للثاني النافس وحظه خمسة وإنما بقي من الجزور ثلاثة فيأخذها ويغرم له الباقون خمسي الجزور، وكذا لو خرج للأول النافس وأخذ خمسة أنصباء ثم خرج للثاني الحلس فأخذ أربعة أنصباء وخرج للثالث المعلى أخذ النصيب الذي بقي وغرم له الباقون ثلاثة أخماس الجزور، وعلى هذا سائر قمارهم، إذا تدبرته علمت كيف يجري جميعه ويغرم القوم ما يلزمهم على قدر سهامهم الباقية يفرضون ما لزمهم على عدد ما في أنصبائهم من الفرض، وقد ذكر أن الجزور تجزأ على عدد ما في القداح من الفروض وهي ثمانية وعشرون جزءاً، ولا معنى لهذا القول لأنه يلزم أن لا يكون في هذا قمار ولا فوز ولا خيبة إذ كل واحد يختار لنفسه ما أحب من السهام ثم يأخذ ما خرج له ثم لا تفرغ أجزاء الجزور إلا بفراغ القداح، فلا معنى للتقامر عليها، والأول أصح ويدل عليه شعر العرب، وذلك لأن الرجل ربما أخذ في الميسر قدحين فيفوز بأجزاء الجزور، مثل أن يأخذ المعلى والرقيب فإذا ضرب له الحرضة خرج له أحدهما ففاز بحظه ثم إذا ضرب الثانية خرج له الآخر فيفوز بسائر الجزور، ولو كان السهام والأنصباء على ما ذكروا لم يفز صاحب سهمين بسائر الأنصباء إذ لا تذهب الأنصباء إلا بفراغ القداح، ومما يدل على فوز صاحب السهمين بالكل قول امرئ القيس‏:‏

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي *** بسهميك في أعشار قلب مقتل

يقول‏:‏ تضرب بسهميها المعلى والرقيب فتحوز القلب كله، ومن هذا قول كثير ووصف ناقة هزلها السير حتى أذهب لحمها‏:‏

وتؤبن من نص الهواجر والسرى *** بقدحين فازا من قداح المقعقع

يقول‏:‏ هذه الناقة هزلها السير حتى لم يبق من لحمها شيء فكأنه ضرب عليها بالقداح ففاز منها قدحان فاستوليا على أعشارها وهو الرقيب والمعلى- انتهى‏.‏ هكذا ذكر شرح قول كثير ورأيت على حاشية نسخة من كتابه ما لعله أليق، وذلك لأنه قال أي يظن بها فضل على الإبل في سيرها بعد نص الهواجر والسرى لصبرها وكرمها وشدتها كفضل رجل فاز قدحه مرتين على قداح أصحابه؛ والمقعقع هو الذي يجيل القداح- انتهى‏.‏ وهو أقرب مما قاله لأن قوله‏:‏ تؤبن بقدحين فازا، ظاهر في أن القدحين لها وأنها هي الفائزة؛ والله سبحانه وتعالى الموفق- هذا‏.‏ وقوله‏:‏ لا معنى للتقامر عليها، على تقدير التجزئة بثمانية وعشرين ليس كذلك بل تظهر ثمرته في التفاوت في الأنصباء، وذلك بأن تكون السهام وهي القداح عشرة، فإنه لما قال‏:‏ إن الأجزاء تكون ثمانية وعشرين، لم يقل‏:‏ إنها على عدد السهام، حتى تكون السهام ثمانية وعشرين، بل قال‏:‏ إنها على عدد الفروض التي في السهام، وقد علم أنها عشرة؛ وقد صرح صاحب الزينة وغيره عن الأصمعي كما مضى وهو ممن قال بهذا القول، فحينئذ من خرج له المعلى مثلاً أخذ سبعة أنصباء من ثمانية وعشرين فيكون أكثر حظاً ممن خرج له ما عليه ستة فروض فما دونها للضربات؛ وقوله‏:‏ إن الرجل ربما أخذ قدحين- إلى آخره، يبين وجهاً آخر من التفاوت، وهو أن الرجل ربما خرج له سهم واحد لاعتراض السهام وتحرفها عن سنن الاستقامة حال الخروج، وربما خرج له سهمان أو ثلاثة في إفاضة واحدة لاستقامة السهام واعتدالها للخروج ففاز بمعظم الجزور، وذلك بأن يكون الرجال أقل من السهام، وربما خرج له أكثر من ذلك مع الوفاء للثمن بينهم على السواء، وهذا الوجه يتأتى أيضاً بتقدير أن تكون السهام والرجال على عدد الأجزاء، لانحصار العد فيمن خرج له سهام سواء كان على عددهم أو أكثر وانحصار الغرم فيمن لم يخرج له سهم على تقدير أن يخرج لغيره عدد من السهام؛ وبتقدير أن لا يخرج لكل واحد واحد يكون قماراً أيضاً، لأن كل واحد منهم غير واثق بالفوز ويكون فائدة ذلك حينئذ للفقراء، ومن قال‏:‏ إن من خرج له شيء من السهام الثلاثة الأغفال يغرم، كان القمار عنده لازماً في كل صورة بكل تقدير‏.‏ وقال في الكشاف‏:‏ إنهم كانوا يعطون الأنصباء للفقراء ولا يأخذون منها شيئاً، وقد تقدم نقل ذلك عن صاحب الزينة والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ولما ذكر ما يذهب ضياء الروح وقوام البدن وذم النفقة فيهما اقتضى الحال السؤال عما يمدح الإنفاق فيه فقال عاطفاً على السؤال عن المقتضي لتبذير المال ‏{‏ويسئلونك ماذا ينفقون‏}‏ وأشعر تكرير السؤال عنها بتكرير الواردات المقتضية لذلك، فأنبأ ذلك بعظم شأنها لأنها أعظم دعائم الجهاد وساق ذلك سبحانه وتعالى على طريق العطف لأنه لما تقدم السؤال عنه والجواب في قوله‏:‏

‏{‏قل ما أنفقتم من خير فللوالدين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 215‏]‏، منع من توقع سؤال آخر، وأما اليتامى والمحيض فلم يتقدم ما يوجب توقع السؤال عن السؤال عنهما أصلاً، وادعاء أن سبب العطف النزول جملة وسبب القطع النزول مفرقاً مع كونه غير شاف للغلة بعدم بيان الحكمة يرده ما ورد أن آخر آية نزلت ‏{‏واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 281‏]‏ وهي بالواو أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من وجهين في مقدمة أسباب النزول وترجم لها البخاري في الصحيح ومن تتبع أسباب النزول وجد كثيراً من ذلك‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ في العطف إنباء بتأكد التلدد مرتين كما في قصة بني إسرائيل، لكن ربما تخوفت هذه الأمة من ثالثتها فوقع ضمهم عن السؤال في الثالثة لتقاصر ما يقع في هذه الأمة عما وقع في بني إسرائيل بوجه ما، وقال سبحانه وتعالى في الجواب‏:‏ ‏{‏قل العفو‏}‏ وهو ما سمحت به النفس من غير كلفة قال‏:‏ فكأنه ألزم النفس نفقة العفو وحرضها على نفقة ما تنازع فيه ولم يلزمها ذلك لئلا يشق عليها لما يريده بهذه الأمة من اليسر، فصار المنفق على ثلاث رتب‏:‏ رتبة حق مفروض لا بد منه وهي الصدقة المفروضة التي إمساكها هلكة في الدنيا والآخرة، وفي مقابلته عفو لا ينبغي الاستمساك به لسماح النفس بفساده فمن أمسكه تكلف إمساكه، وفيما بينهما ما تنازع النفس إمساكه فيقع لها المجاهدة في إنفاقه وهو متجرها الذي تشتري به الآخرة من دنياها «قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما يحل لنا من أموال أزواجنا- تسأل عن الإنفاق منها، قال‏:‏ الرُطْب- بضم الراء وسكون الطاء- تأكلينه وتهدينه» لأنه من العفو الذي يضر إمساكه بفساده؛ لأن الرطب هو ما إذا أبقي ين يوم إلى يوم تغير كالعنب والبطيخ وفي معناه الطبائخ وسائر الأشياء التي تتغير بمبيتها- انتهى‏.‏ وفي تخصيص المنفق بالعفو منع لمتعاطي الخمر قبل حرمتها من التصرف، إذ كان الأغلب أن تكون تصرفاته لا على هذا الوجه، لأن حالة السكر غير معتد بها والتصرف فيها يعقب في الأغلب عند الإفاقة أسفاً وكذا الميسر بل هو أغلظ‏.‏ ولعل تأخير بيان أن المحثوث عليه من النفقة إنما هو الفضل إلى هذا المحل ليحمل أهل الدين الرغبة فيه مع ما كانوا فيه من الضيق على الإيثار على النفس من غير أمر به رحمة لهم، ومن أعظم الملوحات إلى ذلك أن في بعض الآيات الذاكرة له فيما سلف ‏{‏وآتى المال على حبه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏‏.‏ قال الأصبهاني‏:‏ قال أهل التفسير‏:‏ كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع ينظر ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، فإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يومه ذلك وتصدق بالباقي حتى نزلت آية الزكاة فنسختها هذه الآية‏.‏

لما بيّن الأحكام الماضية في هذه السورة أحسن بيان وفصل ما قص من جميع ما أراد أبدع تفصيل لا سيما أمر النفقة فإنها بينها مع أول السورة إلى هنا في أنواع من البيان على غاية الحكمة والإتقان كان موضع سؤال‏:‏ هي يبين لنا ربنا غير هذا من الآيات كهذا البيان‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ما مضى من هذا البيان العلي الرتبة البعيد المنال عن منازل الأرذال ‏{‏يبين الله‏}‏ الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏لكم‏}‏ جميع ‏{‏الآيات‏}‏ قال الحرالي‏:‏ فجمعها لأنها آيات من جهات مختلفات لما يرجع لأمر القلب وللنفس وللجسم ولحال المرء مع غيره- انتهى‏.‏ وأفرد الخطاب أولاً وجمع ثانياً إعلاماً بعظمة هذا القول للإقبال به على الرأس، وإيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ علماً من قبل هذا بحيث لا يحتاج إلى زيادة وأن هذا البيان إنما هو للأتباع يتفهمونه على مقادير أفهامهم وهممهم، ويجوز أن يكون الكلام تم بكذلك أي البيان ثم استأنف ما بعده فيكون البيان مذكوراً مرتين‏:‏ مرة في خطابه تلويحاً، وأخرى في خطابهم تصريحاً؛ أو يقال‏:‏ أشار إلى علو الخطاب بالإفراد وإلى عمومه بالجمع انتهى ‏{‏لعلكم تتفكرون *‏}‏ أي لتكونوا على حالة يرجى لكم معها التفكر، وهو طلب الفكر وهو يد النفس التي تنال بها المعلومات كما تنال بيد الجسم المحسوسات- قاله الحرالي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏220- 224‏]‏

‏{‏فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏220‏)‏ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏221‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ‏(‏222‏)‏ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏223‏)‏ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏224‏)‏‏}‏

ولما كان البيان من أول السؤال إلى هنا قد شفي في أمور الدارين وكفى وأوضح ثمرات كل منهما وكان العرب ينكرون الآخرة ساق ذكرها مساق ما لا نزاع فيه لكثرة ما دل عليها فقال‏:‏ ‏{‏في الدنيا والآخرة‏}‏ أي في أمورهما فتعلموا بما فتح الله لكم سبحانه وتعالى من الأبواب وما أصل لكم من الأصول ما هو صالح وما هو أصلح وما هو شر وما هو أشر لتفعلوا الخير وتتقوا الشر فيؤول بكم ذلك إلى فوز الدارين‏.‏

ولما كان العفو غير مقصور على المال بل يعم القوى البدنية والعقلية وكان النفع لليتيم من أجل ما يرشد إليه التفكر في أمور الآخرة وكان الجهاد من أسباب القتل الموجب لليتم وكانوا يلون يتاماهم فنزل التحريج الشديد في أكل أموالهم فجانبوهم واشتد ذلك عليهم سألوا عنهم فأفتاهم سبحانه وتعالى فيهم وندبهم إلى مخالطتهم على وجه الإصلاح الذي لا يكون لمن يتعاطى الخمر والميسر فقال‏:‏ ‏{‏ويسئلونك عن اليتامى‏}‏ أي في ولايتهم لهم وعملهم في أموالهم وأكلهم منها ونحو ذلك مما يعسر حصره؛ وأمره بالجواب بقوله‏:‏ ‏{‏قل إصلاح لهم خير‏}‏ أي من تركه، ولا يخفى الإصلاح على ذي لب فجمع بهذا الكلام اليسير المضبوط بضابط العقل الذي أقامه تعالى حجة على خلقه ما لا يكاد يعد، وفي قوله‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ ما يشعر بالحث على تخصيصهم بالنظر في أحوالهم ولو أدى ذلك إلى مشقة على الولي‏.‏

ولما كان ذلك قد يكون مع مجانبتهم وكانوا قد يرغبون في نكاح يتيماتهم قال‏:‏ ‏{‏وإن تخالطوهم‏}‏ أي بنكاح أو غيره ليصير النظر في الصلاح مشتركاً بينكم وبينهم، لأن المصالح صارت كالواحدة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وهي رتبة دون الأولى، والمخالطة مفاعلة من الخلطة وهي إرسال الأشياء التي شأنها الانكفاف بعضها في بعض كأنه رفع التحاجز بين ما شأنه ذلك ‏{‏فإخوانكم‏}‏ جمع أخ وهو الناشئ مع أخيه من منشأ واحد على السواء بوجه ما- انتهى‏.‏ أي فعليكم من مناصحتهم ما يقودكم الطبع إليه من مناصحة الإخوان ويحل لكم من الأكل من أموالهم بالمعروف وما يحل من أموال إخوانكم؛ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي كالغدة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي‏.‏ قالوا‏:‏ وإذا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً كان في غيرهم أوسع، وهو أصل شاهد لما يفعله الرفاق في الأسفار، يخرجون النفقات بالسوية ويتباينون في قلة المطعم وكثرته- نقله الأصبهاني‏.‏

ولما كان ذلك مما قد يدخل فيه الشر الذي يظهر فاعله أنه لم يرد به إلا الخير وعكسه قال مرغباً مرهباً‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ‏{‏يعلم‏}‏ أي في كل حركة وسكون‏.‏

ولما كان الورع مندوباً إليه محثوثاً عليه لا سيما في أمر اليتامى فكان التحذير بهذا المقام أولى قال‏:‏ ‏{‏المفسد‏}‏ أي الذي الفساد صفة له ‏{‏من المصلح‏}‏ فاتقوا الله في جميع الأمور ولا تجعلوا خلطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم‏.‏

ولما كان هذا أمراً لا يكون في بابه أمر أصلح منه ولا أيسر منّ عليهم بشرعه في قوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ أي بعظمة كماله ‏{‏لأعنتكم‏}‏ أي كلفكم في أمرهم وغيره ما يشق عليكم مشقة لا تطاق فحد لكم حدوداً وعينها يصعب لوقوف عندها وألزمكم لوازم يعسر تعاطيها، من الإعنات وهو إيقاع العنت وهو أسوأ الهلاك الذي يفحش نعته- قاله الحرالي‏.‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏عزيز‏}‏ يقدر على ما يريد ‏{‏حكيم *‏}‏ يحكمه بحيث لا يقدر أحد على نقض شيء منه‏.‏ ولما ذكر تعالى فيما مر حلّ الجماع في ليل الصيام وأتبع ذلك من أمره ما أراد إلى أن ذكر المخالطة على وجه يشمل النكاح في سياق مانع مع الفساد داع إلى الصلاح وختم بوصف الحكمة ولما كان النكاح من معظم المخالطة في النفقة وغيرها وكان الإنسان جهولاً تولى سبحانه وتعالى بحكمته تعريفه ما يصلح له وما لا يصلح من ذلك، وأخر أمر النكاح عن بيان ما ذكر معه من الأكل والشرب في ليل الصيام لأن الضرورة إليهما أعظم، وقدمه في آية الصيام لأن النفس إليه أميل فقال عاطفاً على ما دل العطف على غير مذكور على أن تقديره‏:‏ فخالطوهم وأنكحوا من تلونه من اليتيمات على وجه الإصلاح إن أردتم ‏{‏ولا تنكحوا‏}‏ قال الحرالي‏:‏ مما منه النكاح وهو إيلاج نهد في فرج ليصيرا بذلك كالشيء الواحد- انتهى‏.‏ وهذا أصله لغة، والمراد هنا العقد لأنه استعمل في العقد في الشرع وكثر استعماله فيه وغلب حتى صار حقيقة شرعية فهو في الشرع حقيقة في العقد مجاز في الجماع وفي اللغة بالعكس وسيأتي عند ‏{‏حتى تنكح زوجاً غيره‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏ عن الفارسي قرينة يعرف بها مراد أهل اللغة ‏{‏المشركات‏}‏ أي الوثنيات، والأكثر على أن الكتابيات مما شملته الآية ثم خصت بآية ‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏حتى يؤمن‏}‏ فإن المشركات شر محض ‏{‏ولأمة‏}‏ رقيقة ‏{‏مؤمنة‏}‏ لأن نفع الإيمان أمر ديني يرجع إلى الآخرة الباقية ‏{‏خير‏}‏ على سبيل التنزيل ‏{‏من مشركة‏}‏ حرة ‏{‏ولو أعجبتكم‏}‏ أي المشركة لأن نفع نسبها ومالها وجمالها يرجع إلى الدنيا الدنية الفانية‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فانتظمت هذه الآيات في تبيين خير الخيرين وترجيح أمر الغيب في أمر الدين والعقبى في أدنى الإماء من المؤمنات خلقاً وكوناً وظاهر صورة على حال العين في أمر العاجلة من الدنيا في أعلى الحرائر من المشركات خلقاً وظاهر صورة وشرف بيت- انتهى ‏{‏ولا تنكحوا‏}‏ أيها الأولياء ‏{‏المشركين‏}‏ أي الكفار بأي كفر كان شيئاً من المسلمات ‏{‏حتى يؤمنوا‏}‏ فإن الكفار شر محض ‏{‏ولعبد‏}‏ أي مملوك ‏{‏مؤمن خير‏}‏ على سبيل التنزيل ‏{‏من مشرك‏}‏ حر ‏{‏ولو أعجبكم‏}‏ أي المشرك وأفهم هذا خيرية الحرة والحر المؤمنين من باب الأولى مع التشريف العظيم لهما بترك ذكرهما إعلاماً بأن خيريتهما أمر مقطوع به لا كلام فيه وأن المفاضلة إنما هي بين من كانوا يعدونه دنيا فشرفه الإيمان ومن يعدونه شريفاً فحقره الكفران، وكذلك ذكر الموصوف بالإيمان في الموضعين ليدل على أنه وإن كان دنيا موضع التفضيل لعلو وصفه، وأثبت الوصف بالشرك في الموضعين مقتصراً عليه لأنه موضع التحقير وإن علا في العرف موصوفه‏.‏

ولما كانت مخالطة أهل الشرك مظنة الفساد الذي ربما أدى إلى التهاون بالدين فربما دعا الزوج زوجته إلى الكفر فقاده الميل إلى اتباعه قال منبهاً على ذلك ومعللاً لهذا الحكم‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الذين هم أهل للبعد من كل خير ‏{‏يدعون إلى النار‏}‏ أي الأفعال المؤدية إليها ولا بد فربما أدى الحب الزوج المسلم إلى الكفر ولا عبرة باحتمال ترك الكافر للكفر وإسلامه موافقة للزوج المسلم لأن درء المفاسد مقدم؛ وسيأتي في المائدة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ لذلك مزيد بيان‏.‏

ولما رهب من أهل الشرك حثاً على البغض فيه رغب في الإقبال إليه سبحانه وتعالى بالإقبال على أوليائه بالحب فيه وبغير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي بعز جلاله وعظمة كماله ‏{‏يدعوا‏}‏ أي بما يأمر به ‏{‏إلى الجنة‏}‏ أي الأفعال المؤدية إليها‏.‏ ولما كان ربما لا يوصل إلى الجنة إلا بعد القصاص قال‏:‏ ‏{‏والمغفرة‏}‏ أي إلى أن يفعلوا ما يؤدي إلى أن يغفر لهم ويهذب نفوسهم بحيث يصيرون إلى حالة سنية يغفرون فيها للناس ما أتوا إليهم‏.‏ ولما كان الدعاء قد يكون بالحمل على الشيء وقد يكون بالبيان بحيث يصير المدعو إليه متهيئاً للوصول إليه قال‏:‏ ‏{‏بإذنه‏}‏ أي بتمكينه من ذلك لمن يريد سعادته ‏{‏ويبين آياته‏}‏ في ذلك وفي غيره ‏{‏للناس‏}‏ كافة من أراد سعادته وغيره ‏{‏لعلهم يتذكرون *‏}‏ أي ليكونوا على حالة يظهر لهم بها بما خلق لهم ربهم من الفهم وما طبع في أنفسهم من الغرائز حسن ما دعاهم إليه وقبح ما نهاهم عنه غاية الظهور بما أفهمه الإظهار‏.‏

ولما كان في ذكر هذه الآية رجوع إلى تتميم ما أحل من الرفث في ليل الصيام على أحسن وجه تلاها بالسؤال عن غشيان الحائض ولما كان في النكاح شائبة للجماع تثير للسؤال عن أحواله وشائبة للانس والانتفاع تفتر عن ذلك كان نظم آية الحرث بآية العقد بطريق العطف أنسب منه بطريق الاستئناف فقال‏:‏ ‏{‏ويسئلونك عن المحيض‏}‏ أي عن نكاح النساء فيه مخالفة لليهود‏.‏

قال الحرالي‏:‏ وهو مفعل من الحيض وهو معاهدة اندفاع الدم العفن الذي هو في الدم بمنزلة البول والعذرة في فضلتي الطعام والشراب من الفرج ‏{‏قل هو أذى‏}‏ أي مؤذ للجسم والنفس لأن فيه اختلاط النطفة بركس الدم الفاسد العفن- قاله الحرالي، وقال‏:‏ حتى أنه يقال إن التي توطأ وهي حائض يقع في ولدها من الآفات أنواع- انتهى‏.‏ ولهذا سبب سبحانه وتعالى عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاعتزلوا النساء‏}‏ أي كلفوا أنفسكم ترك وقاعهن، من الاعتزال وهو طلب العزل وهو الانفراد عما شأنه الاشتراك- قاله الحرالي‏.‏ ‏{‏في المحيض‏}‏ أي زمنه، وأظهره لئلا يلبس لو أضمر بأن الضمير لمطلق المراد بالأذى من الدم فيشمل الاستحاضة وهي دم صالح يسيل من عرق ينفجر من عنق الرحم فلا يكون أذى كالحيض الذي هو دم فاسد يتولد من طبيعة المرأة من طريق الرحم ولو احتبس لمرضت المرأة، فهو كالبول والغائط فيحل الوطء معه دون الحيض لإسقاط العسر- قاله الإمام‏.‏ ‏{‏ولا تقربوهن‏}‏ أي في محل الإتيان بجماع ولا مباشرة في ما دون الإزار وإنما تكون المباشرة في ما علا عن الإزار ‏{‏حتى‏}‏ ولما كان فيه ما أشير إليه من الركس قال‏:‏ ‏{‏يطهرن‏}‏ أي بانقطاعه وذهاب إبانه والغسل منه، والذي يدل على إرادة ذلك مع قراءة التشديد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ أي اغتسلن، فالوطء له شرطان‏:‏ الانقطاع والاغتسال وربما دلت قراءة التخفيف على جواز القربان لا الإتيان وذلك بالمباشرة فيما سفل عن الإزار ‏{‏فأتوهن‏}‏ أي جماعاً وخلطة مبتدئين ‏{‏من حيث أمركم الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال، وهو القبل على أي حالة كان ذلك؛ ولما دل ما في السياق من تأكيد على أن بعضهم عزم أو أحب أن يفعل بعض ما تقدم النهي عنه علل بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ مكرراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام ولم يضمره إعلاماً بأن هذا حكم عام لما يقع من هفوة بسبب الحيض أو غيره ‏{‏يحب‏}‏ أي بما له من الاختصاص بالإحاطة بالإكرام وإن كان مختصاً بالإحاطة بالجلال ‏{‏التوابين‏}‏ أي الرجاعين عما كانوا عزموا عليه من ذلك ومن كل ذنب أوجب لهم نقص الإنسانية ولا سيما شهوة الفرج الإلمام به، كلما وقعت منهم زلة أحدثوا لها توبة لأن ذلك من أسباب إظهاره سبحانه صفة الحلم والفعو والجود والرحمة والكرم «لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» أخرجه مسلم والترمذي عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه‏.‏ وإذا أحب من يتكرر منه التوبة بتكرار المعاصي فهو في التائب الذي لم يقع منه بعد توبته زلة إن كان ذلك يوجد أحب وفيه أرغب وبه أرحم، ولما كان ذلك مما يعز التخلص من إشراكه إما في تجاوز ما في المباشرة أو في الجماع أولاً أو آخراً أتى بصيغة المبالغة‏.‏

قال الحرالي‏:‏ تأنيساً لقلوب المتحرجين من معاودة الذنب بعد توبة منه، أي ومن معاودة التوبة بعد الوقوع في ذنب ثان لما يخشى العاصي من أن يكتب عليه كذبه كلما أحدث توبة وزل بعدها فيعد مستهزئاً فيسقط من عين الله ثم لا يبالي به فيوقفه ذلك عن التوبة‏.‏

ولما كانت المخالطة على الوجه الذي نهى الله عنه قذره جداً أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ويحب‏}‏ ولما كانت شهوة النكاح وشدة الشبق جديرة بأن تغلب الإنسان إلا بمزيد مجاهدة منه أظهر تاء التفعل فقال‏:‏ ‏{‏المتطهرين *‏}‏ أي الحاملين أنفسهم على ما يشق من أمر الطهارة من هذا وغيره، وهم الذين يبالغون ورعاً في البعد عن كل مشتبه فلا يواقعون حائضاً إلا بعد كمال التطهر؛ أي يفعل معهم من الإكرام فعل المحب وكذا كل ما يحتاج إلى طهارة حسية أو معنوية‏.‏

ولما بين سبحانه وتعالى المأتي في الآية السابقة نوع بيان أوضحه مشيراً إلى ثمرة النكاح الناهية لكل ذي لب عن السفاح فقال‏:‏ ‏{‏نساؤكم‏}‏ أي اللاتي هن حل لكم بعقد أو ملك يمين ولما كان إلقاء النطفة التي يكون منها النسل كإلقاء البذر الذي يكون منه الزرع شبههن بالمحارث دلالة على أن الغرض الأصيل طلب النسل فقال مسمياً موضع الحرث باسمه موقعاً اسم الجزء على الكل موحداً لأنه جنس ‏{‏حرث لكم‏}‏ فأوضح ذلك‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ليقع الخطاب بالإشارة أي في الآية الأولى لأولي الفهم وبالتصريح أي في هذه لأولي العلم لأن الحرث كما قال بعض العلماء إنما يكون في موضع الزرع- انتهى‏.‏ وفي تخصيص الحرث بالذكر وتعميم جميع الكيفيات الموصلة إليه بقوله‏:‏ ‏{‏فأتوا حرثكم‏}‏ أي الموضع الصالح للحراثة ‏{‏أنى شئتم‏}‏ أي من أين وكيف إشارة إلى تحريم ما سواه لما فيه من العبث بعدم المنفعة‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ الأدبار موضع الفرث لا موضع الحرث‏.‏

ولما كانت هذه أموراً خفية لا يحمل على صالحها وتحجر عن فاسدها إلا محض الورع قال‏:‏ ‏{‏وقدموا‏}‏ أي أوقعوا التقديم‏.‏ ولما كان السياق للجمع وهو من شهوات النفس قال مشيراً إلى الزجر عن اتباعها كل ما تهوي‏:‏ ‏{‏لأنفسكم‏}‏ أي من هذا العمل وغيره من كل ما يتعلق بالشهوات ما إذا عرض على من تهابونه وتعتقدون خيره افتخرتم به عنده وذلك بأن تصرفوا مثلاً هذا العمل عن محض الشهوة إلى قصد الإعفاف وطلب الولد الذي يدوم به صالح العمل فيتصل الثواب، ومن التقديم التسمية عند الجماع على ما وردت به السنة وصرح به الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على ما نقل عنه‏.‏

ولما كانت أفعال الإنسان في الشهوات تقرب من فعل من عنده شك احتيج إلى مزيد وعظ فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي اجعلوا بينكم وبين ما يكرهه الملك الأعظم من ذلك وغيره وقاية من الحلال أو المشتبه‏.‏

وزاد سبحانه وتعالى في الوعظ والتحذير بالتنبيه بطلب العلم وتصوير العرض فقال‏:‏ ‏{‏واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏ وهو سائلكم عن جميع ما فعلتموه من دقيق وجليل وصالح وغيره فلا تقعوا فيما تستحيون منه إذا سألكم فهو أجل من كل جليل‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وفيه إشعار بما يجري في أثناء ذلك من الأحكام التي لا يصل إليها أحكام حكام الدنيا مما لا يقع الفصل فيه إلا في الآخرة من حيث إن أمر ما بين الزوجين سر لا يفشى، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته» وقال‏:‏ «لا أحب للمرأة أن تشكو زوجها» فأنبأ تعالى أن أمر ما بين الزوجين مؤخر حكمه إلى لقاء الله عز وجل حفيظة على ما بين الزوجين ليبقى سراً لا يظهر أمره إلا الله تعالى، وفي إشعاره إبقاء للمروة في أن لا يحتكم الزوجان عند حاكم في الدنيا وأن يرجع كل واحد منهما إلى تقوى الله وعلمه بلقاء الله- انتهى‏.‏

ولما كان هذا لا يعقله حق عقله كل أحد أشار إلى ذلك بالالتفات إلى أكمل الخلق فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فأنذر المكذبين فعلاً أو قولاً، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين *‏}‏ أي الذين صار لهم الإيمان وصفاً راسخاً تهيؤوا به للمراقبة، وهو إشارة إلى أن مثل هذا من باب الأمانات لا يحجز عنه إلا الإخلاص في الإيمان والتمكن فيه‏.‏

ولما أذن في إتيان النساء في محل الحرث كيف ما اتفق ومنع مما سوى ذلك ومنع من محل الحرث في حال الحيض بين حكم ما إذا منع الإنسان نفسه من ذلك بالإيلاء أو بمطلق اليمين ولو على غير سبيل الإيلاء لأنه نقل عن كثير منهم شدة الميل إلى النكاح فكان يخشى المواقعة في حال المنع فتحمله شدة الورع على أن يمنع نفسه بمانع مظاهرة كما بين في سورة المجادلة أو غيرها من الأيمان فمنعهم من ذلك بقوله تعالى عادلاً عن خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم تعظيماً لمقامه‏:‏ ‏{‏ولا تجعلوا الله‏}‏ أي الذي لا شيء يداني جلاله وعظمته وكماله ‏{‏عرضة‏}‏ أي معرضاً ‏{‏لأيمانكم‏}‏ فيكون في موضع ما يمتهن ويبتذل فإن ذلك إذا طال حمل على الاجتراء على الكذب فجر إلى أقبح الأشياء‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والعرضة ذكر الشيء وأخذه على غير قصد له ولا صمد نحوه بل له صمد غيره ‏{‏أن‏}‏ أي لأجل أن ‏{‏تبروا‏}‏ في أموال اليتامى وغيرها مما تقدم الأمر به أو النهي عنه ‏{‏وتتقوا‏}‏ أي تحملكم أيمانكم على البر وهو الاتساع في كل خلق جميل والتقوى وهي التوغل في خوف الله سبحانه وتعالى ‏{‏وتصلحوا بين الناس‏}‏ فتجعلوا الأيمان لكم ديدناً فتحلفون تارة أن تفعلوا وتارة أن لا تفعلوا لإلزام أنفسكم بتلك الأشياء فإن من لا ينقاد إلى الخير إلا بقائد من يمين أو غيرها ليس بصادق العزيمة، وفي الأمثال‏:‏ فرس لا تجري إلا بمهماز بئس الفرس‏.‏

ولما أرشد السياق والعطف على غير مذكور إلى أن التقدير‏:‏ فالله جليل عظيم عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي بما له من العز والعظمة ‏{‏سميع‏}‏ لجميع ما يكون من ذلك وغيره ‏{‏عليم *‏}‏ بما أسر منه وما أعلن، فاحذروه في جميع ما يأمركم به وينهاكم عنه، ويجوز أن يكون الجملة حالاً من واو ‏{‏تجعلوا‏}‏ فلا يكون هناك مقدر ويكون الإظهار موضع الإضمار لتعظيم المقام‏.‏